مدونات

التعليم السوري بين الحفظ والجمود

نوفمبر 7, 2025

التعليم السوري بين الحفظ والجمود

ديانا القصير

في وقت تتسابق فيه دول العالم لتحديث أنظمتها التعليمية ومواكبة المهارات العصرية، ما يزال المنهاج السوري يثير الجدل بين الأهالي والطلاب، خاصة أولئك العائدين من الاغتراب. صدمة حقيقية يعيشها الطلاب عند مواجهة منهاج ضخم، تقليدي، يعتمد على الحشو المعرفي بدلاً من الفهم، ويتجاهل في كثير من الأحيان حاجات الجيل الجديد وتغيرات العصر.

الطلاب لا يرَون في هذا المنهاج ما يُشبههم، ولا ما يُلبي شغفهم أو يُنمي قدراتهم. والأهالي يجدون أنفسهم في صراعٍ يومي بين رغبتهم في تأمين تعليم جيد لأبنائهم، ومحتوى يفتقر إلى التبسيط، ويفرض على الأطفال أعباء أكبر من قدرتهم.

فهل حان وقت التغيير؟ وهل باتت الحاجة إلى إصلاح المنهاج السوري ضرورة لا يمكن تأجيلها؟

صوت الطلاب العائدين.

نور، طالب يبلغ من العمر 13 عامًا، عاد مؤخرًا من ألمانيا بعد أن قضى هناك 5 سنوات من حياته الدراسية. مع بداية عامه الدراسي في سوريا، واجه صدمةً حقيقية، ليس فقط بسبب تغير البيئة، بل بسبب اختلاف جذري في أسلوب التعليم.

في ألمانيا، اعتاد نور على نظام تعليمي يركّز على الفهم والتجربة والمشاركة، حيث كانت الرياضيات تُقدَّم له من خلال أنشطة يومية وتطبيقات عملية، أما العلوم فكانت تُدرّس بتجارب حقيقية داخل الصف، ويُشجَّع الطلاب على التفكير والنقاش. لكن حين دخل إلى الصف الثامن في مدرسة سورية، وجد نفسه أمام كمّ هائل من المعلومات النظرية والمواد الضخمة التي تتطلب الحفظ فقط، دون أيّ ربط بالحياة أو تبسيط. شعر بالضغط والإرهاق، ليس من صعوبة المعلومات فقط، بل من الطريقة الجافة في تقديمها، والتي لا تراعي اختلاف الخلفيات الدراسية للطلاب العائدين من الخارج.

نور ليس حالة فردية، بل مثال على فجوةٍ تعليمية حقيقية يعانيها العديد من الطلاب السوريين العائدين من الاغتراب، ممن يجدون أنفسهم أمام منهاج لا يتناسب مع ما اعتادوه، لا في المضمون ولا في الأسلوب.

تروي والدة الطفلة راما ذات الـ12 عامًا، كيف كانت الصدمة كبيرة عند عودتهم من تركيا. تقول: “راما كانت تدرس هناك باللغة التركية، وتعلمت القراءة والكتابة جيدًا، لكن بالعربية كانت ضعيفة، وهذا سبّب لها صعوبة كبيرة في متابعة المواد التي تعتمد على اللغة العربية بشكلٍ أساسي، مثل القواعد. للأسف، لم نحبذ فكرة إعادتها سنتين دراسيتين، لكن هذا كان القرار الذي اتخذته المدرسة.” وتضيف: “راما كانت تحب المدرسة كثيرًا، لكنّها الآن تشعر بالإحباط والخوف من الذهاب. ثقتها بنفسها تراجعت كثيرًا، وتشعر بأنّها متأخرة عن زميلاتها، رغم أنّها كانت متفوقة في تركيا. كأم، هذا كان مؤلمًا جدًا لنا”.

تعكس قصة راما الواقع الذي يعيشه العديد من الأطفال العائدين من الاغتراب، حيث يواجهون تحديات كبيرة في التكيف، خصوصًا بسبب اختلاف اللغة وطريقة التدريس. قد تتطلب حالات كهذه إنشاء برامج دعم لغوي مكثفة (Remedial Programs) للطلاب العائدين الذين يعانون من ضعفٍ في اللغة العربية، بحيث يُدمَجون في صفوفٍ عادية بعد فترة تأهيلية قصيرة، بدلاً من إعادتهم سنوات دراسية كاملة، وهذا يتطلب تدريب المعلمين على التعامل مع الفروق الفردية الكبيرة هذه.

 بيئة مدرسية طاردة ودور المعلم المقيد.

إنّ الإشكاليات في النظام التعليمي السوري لا تقتصر على محتوى المنهاج فقط، بل تمتد إلى البيئة المدرسية المحيطة التي تجعل المدرسة مكاناً غير محبذ للأطفال، وخاصة أولئك القادمين من بيئاتٍ تعليمية أكثر دعماً وجاذبية. ففي كثير من المدارس، يجد الطلاب أنفسهم في صفوفٍ تعاني من الاكتظاظ الشديد ونقص حاد في النظافة والصيانة، حيث تفتقر البنية التحتية الأساسية مثل المخابر العلمية والمكتبات ووسائل التدفئة والتبريد إلى الحد الأدنى من الجودة.

هذا الوضع المادي المتردي يُضاف إليه غياب الأنشطة اللاصفية والفعاليات التي تُجذب الطلاب إلى عملية التعلم وتُزيد من شغفهم، خاصة أنّ الكثير من أهالي الطلاب غير قادرين مادياً على توفير هذه الأنشطة أو الدعم الإضافي المطلوب لأبنائهم خارج المدرسة لتعويض النقص.

تاريخياً، كان المنهاج يُصمَّم ويُطبَّق بمركزية شديدة، من جهاتٍ عليا دون إشراك فعّال للمعلمين أو للميدان التربوي. هذه المركزية المفرطة أفقدت المناهج مرونتها وواقعيتها، وجعلت الهدف يتركز على تكريس مفاهيم محددة بدلاً من بناء التفكير النقدي، ويُضاف إلى ذلك التحديات التي يواجهها المعلمون أنفسهم؛ فهم يعانون من غياب الدعم المادي والنفسي الكافي، لدرجة أنّ الراتب لا يكفي لتحفيزهم على تقديم كلّ ما لديهم من خبرةٍ وجهد. هذا التقاعس القسري يؤدي إلى هجرة الكفاءات وإضعاف جودة التدريس المتاحة، ويزيد من صعوبة عملية استيعاب الأطفال العائدين الذين يحتاجون إلى دعم إضافي.

الخوف من الفشل والعقاب: عبء نفسي إضافي

تُعدّ البيئة المدرسية في بعض الأحيان مساحة للخوف لا للتعلم؛ فالنظام التعليمي الذي يركز كلياً على النتائج النهائية والامتحانات يخلق حالة دائمة من القلق المتعلق بالتحصيل والخوف من الفشل. ويُضاف إلى ذلك، استمرار وجود نظام العقاب الجسدي أو المعنوي في بعض المدارس، وهو ما يتنافى كلياً مع الممارسات التربوية الحديثة التي اعتادها الطلاب العائدون من الخارج.

هذا المناخ القائم على التهديد، بدلاً من التشجيع والدعم النفسي، يساهم في زيادة الانعزال وصعوبة الاندماج الاجتماعي، ويحوّل العلاقة بين الطالب والمعلم إلى علاقة سلطة وخوف، بدلاً من كونها علاقة توجيه وثقة. هذا العبء النفسي يُنهك الأطفال ويجعلهم يفقدون شغفهم بالتعلم ببطء.

وفي هذا السياق، تؤكد الباحثة التربوية والنفسية آلاء الدالي أنّ الأطفال السوريين العائدين يواجهون تحديات كبيرة متعددة الأوجه، تبدأ باختلاف اللغة والنظام التعليمي وصعوبة التكيف مع البيئة الجديدة، ممّا يفرض عليهم وعلى أسرهم آثاراً نفسية واضحة تتمثّل في القلق والتوتر المصاحبين لعملية الانتقال. ويتفاقم هذا التحدي بسبب طبيعة المنهاج السوري التقليدي والقديم، الذي يعتمد بشكلٍ مفرط على المعلومات الجافة والحفظ البصم، ويفتقر إلى تنمية مهارات التفكير والاستنتاج.

إنّ ضخامة المنهاج تشكّل عبئاً نفسياً ومعرفياً كبيراً يؤدي إلى حالات من الإحباط وفقدان الدافعية والخوف من الامتحانات، خاصة في المراحل الدراسية الحاسمة. كما أنّ عوامل أخرى مثل نظام الضرب في المدارس وصعوبة بناء العلاقات تساهم في انعزال هؤلاء الأطفال. ولمواجهة هذه التحديات، يجب على الأسرة القيام بدور المساند بتقديم الدعم والحوار لتسهيل الاندماج. والأهم هو ضرورة تطوير المناهج لتعكس الاحتياجات العصرية (كالذكاء الاصطناعي)، وأن تركز على تنمية مهارات التفكير، التحليل، والتطبيق العملي، بدلاً من الاعتماد الكلي على الحفظ، بما يتناسب مع القدرات العمرية للطلاب.

إنّ التركيز على “الحشو المعرفي” في المنهاج السوري يهدد مستقبل الطلاب، فبينما يتطلب سوق العمل العالمي مهارات القرن الحادي والعشرين مثل العمل الجماعي، حل المشكلات المعقدة، والذكاء العاطفي، نجد أن النظام التعليمي الحالي لا يوفر بيئة لتنمية هذه المهارات، بل يكرس مهارة الحفظ التي عفا عليها الزمن.

 لا وقت للتردد، استثمار الجيل هو مصير الوطن.

إنّ إعادة النظر في التعليم ليست ترفاً أو خياراً ثانوياً؛ بل هي أولوية وطنية قصوى ومسألة مصيرية. الفجوة بين ما يُقدّم في الصف وما يتطلبه العصر تتسع يوماً بعد يوم، وهي تهدد بخسارة جيل بأكمله. يجب أن تتوقف المماطلة والحلول الجزئية.

آن الأوان لكي يتوقف المنهاج عن كونه عبئاً يسحق طموح الأطفال، ليتحول إلى جسـرٍ حقيقي للابتكار والفهم. على صانعي القرار أن يدركوا أنّ الاستثمار في الجيل القادم، عبر توفير بيئة مدرسية كريمة ومناهج عصرية ومعلمين محفزين، هو الركن الأساسي والوحيد لبناء سوريا الجديدة القادرة على النهوض. إنّ بناء جيل ذكي يحمل على عاتقه مسؤولية القيادة والمستقبل هو الهدف الأسمى الذي لا يقبل المساومة أو التأجيل. لا مستقبل لأمة بدون تعليم أطفالها.

شارك

مقالات ذات صلة