مدونات

ولادة الموت… من مذكرات الإبادة!

نوفمبر 7, 2025

ولادة الموت… من مذكرات الإبادة!

  • الكاتبة: رجاء خالد عياش

بين جدران تفوح منها رائحة الموت والحياة معًا، كنت أمشي على أطراف أصابعي كمن يخطو فوق شظايا روحه، أخشى أن أدوس على امرأة تُفرغ جسدها في هذا الجحيم. كلّ خطوة هنا صرخة، وكلّ نفسٍ عدّادٌ للموت أو للحياة.

أرفع قلمي وكاميرتي محاوِلة الإمساك باللحظة، لكن الكلمات تتفتت، والعدسة ترتجف أمام هذا الظلم المتراكم، أمام صرخات نساء تخترق حدود الاحتمال. صرخات المواليد تتعالى كاحتجاج صغير على القدر، أصوات تُدفع إلى حياة بائسة وسط الخراب، بينما على الجهة الأخرى من المشفى تسمع أصوات سيارات الإسعاف وهي تنقل قتلى ومصابين حصدتهم الإبادة بلا رحمة.

هنا، الموت صار إيقاع المدينة وأنفاسها المنتظمة، يرافق كلّ ميلاد، يلاحق كلّ حياة. أتأمل المشهد في ذهول: في اللحظة نفسها التي تولد فيها حياة، يصرّ الموت على أن ينافسها.

تحت وطأة إبادة لا ترحم، تتعالى صرخات النساء الحادّة، مثقلة بالتعب والفقد والهرمونات والخراب. صرخات تنفلت من حناجر أنهكها الألم، كحممٍ حمراء تغلي في باطن الأرض. أسمعها فتهتز روحي، وأنا التي أعرف قسوة المخاض في زمن الحرب؛ أعرف كيف تمتد الصرخة كسيف على العمود الفقري، وكيف تُنتزع روح من روح، وكيف ينهار القلب بين النجاة والموت.

نحن الأمهات في هذه اللحظات الحرجة نحتاج إلى لمسة أمان، إلى رحمة ولو بسيطة، لكن هنا… لا أمان ولا رحمة. لا أسرّة تكفي، لا أدوية تُخفف الألم، الأرض ملوثة بالدم، والهواء مشبع برائحة المخاض والجراثيم.

النساء يصرخن صرخات الغضب واليأس والسخط، كأنّ مدينةً بأكملها تتفتت من حناجرهن. كلّ زاوية هنا تحكي قصة موتٍ مؤجّل، كلّ صرخة تحفر أثرها في الجدران والقلوب. كلّ امرأة تصرخ ليس فقط من ألم الولادة، بل من غياب الإنسانية، من هذا العالم الذي سلبها أبسط حقوقها: أن تلد بكرامة، وأن تعيش بعد الولادة.

لقد داست هذه الحرب على أقدس ما نملك نحن النساء، على تلك الزاوية الخفية التي نحتمي بها من قسوة العالم. اخترقت حدودنا الحمراء وسحقت ما تبقى من خصوصيتنا وكرامتنا.

في كلّ ركن هنا مشهد يتجاوز قدرة الكاميرا على الالتقاط، وجع لا يُروى بعدسة ولا يُختصر بكلمات. أفتح عيني على أصوات النساء، فيرتجف جسدي من التعب قبل أن ألمس معاناتهن، فكيف بمن تعيشها كاملةً؟

أسِرّةٌ مهترئة تحمل أجسادًا أنهكها المخاض، تتصبب وجوههن عرقًا يسقط فيختلط بدم الولادة، كأنّ الجسد يعلن هزيمته الأخيرة. لا وقت للراحة، لا ذراع تحتضن، فقط عجلة الألم تدور.

تُسحب المرأة من سريرها قبل أن تلتقط أنفاسها لتفسح المكان لأخرى تدخل ذات الدائرة من العذاب. يمشين ودماؤهن تسيل، وجراح الولادة تحتك ببعضها داخل أجسادهن في ألمٍ يشبه انتزاع الروح، ومع ذلك يصمتن؛ لا يمتلكن رفاهية أن يشتكين أمام مشهدٍ تغمره الجثث.

نزيفهن يسيل على الأرض فيمتزج بدماء الشهداء الذي أغرق أرض المشفى، فيتحول الجسد الأنثوي إلى ساحة حرب أخرى، تُنتهك فيها الخصوصية كما تُنتهك الحدود، وتغدو آلام الولادة بكلّ تفاصيلها القاسية تفصيلًا صغيرًا في مشهدٍ أكبر من الألم.

دخلت إلى المكان لأصوّر مشهدًا لفيلم، فكرهت كلّ شيء. كرهت الكاميرا، وكرهت فكرة التوثيق نفسها. كيف يمكن للعدسة أن تنصفنا؟ كيف تُترجم وجعًا كهذا؟ لمن نصوّر؟ ولماذا نعيش هذا كله كي نُقدّمه صورة؟

في تلك اللحظة، شعرت أنّ كاميرا هاتفي تخونني، لكنها — بعد دقائق — تحوّلت من أداة توثيق إلى وسيلة نجاة. هاتف صغير صار كشافًا في يد الطبيب بعد انقطاع الكهرباء، ينير جرحًا مفتوحًا بدل أن يوثقه. أدركت حينها أنّ الضوء أهم من الصورة، والنجاة أقدس من الذاكرة.

في غرفة الولادة القيصرية، نساء تُخترق أجسادهن بأدوات حادة تمزق طبقات الجلد والوجع معًا، وصولًا إلى المولود. لا بنج، لا مسكن، فقط وعيٌ متأهب وأسنانٌ تطحن الألم حتى تكاد تتساقط. هناك، يولد الموت مع كلّ ولادة — موت الإنسانية في هذا العالم، وميلاد تروما تسكن الجسد ما بقيت فيه أنفاس.

بين صرخةٍ وجرحٍ مفتوح، يهتز المكان بصاروخٍ قريب، يتساقط الغبار فوق الأجساد العارية، وكشاف الضوء ينتقل من يدٍ إلى أخرى، يحمله كلّ من بقي واقفًا — كأنّ الضوء ذاته يُكابد الألم معنا، يحاول أن يرى، وأن لا ينهار.

تعبنا من الموت، حتى صار أثقل من الحياة. لم يعد يفاجئنا، بل يجاورنا، ينام معنا، ويوقظنا كل صباح. في غزّة، الموت لا يأتي مرة واحدة، بل يجيء في نوباتٍ متتابعة كحمّى، يسرق منّا من نحبّ ثمّ ينتظر دوره التالي. يباغتنا كما تباغتنا الحياة، فيختلطان حتى لا نعرف أيّهما وُلد أولًا.

نساء يعبرن الموت المصغّر ليهبن الحياة، ثمّ يتلقين الخبر القاتل: زوجها الصحفي قُتل أمام باب المشفى وهي لا تزال تنزف. أيمن الجدي، الصحفي الذي ظلّ يلاحق الضوء والأمل فانتظر صغيره، لاحقه الموت حتى سرقه من اللحظة التي وُلد فيها طفله. كأنّ الفرح هنا محرَّم، لا يكتمل إلا بفقدٍ عظيم.

في غزة، إن نلت شيئًا، فعليك أن تدفع مقابله روحًا أو حلمًا أو جزءًا من إنسانيتك. أتخيل زوجته بين النزيف والارتجاف، لا تملك ترف البكاء. لم يُمنح لها الوقت لتحزن؛ القصف يعلو على أنينها، والنازحون حولها يتقاسمون معها الهواء والبؤس.

في خيمة مهترئة تُصارع النساء فكرة أن يُسلب من أجسادهن حتى حقّ النظافة. لا حمام، لا فوط، لا دواء. أقمشة متسخة تحتكّ بالجروح الملتهبة، دماء بلا ماء، رائحة تختلط باليأس والغضب حتى تصير حقدًا على الجسد نفسه، على كونه أنثى، على كونه موجودًا أصلًا.

كلّ سترٍ سقط هنا. كل جرحٍ انكشف على الملأ. لا طعام يشدّ أجسادهن الممزقة، ولا حليب في صدورهن لأطفالٍ يذوبون من الجوع بين أذرعهن. أجساد صغيرة تموت بصمت، تصرخ بلا صوت، تنتظر رشفة حياة لم تصل أبداً.

هذه المشفى، التي صمدت في وجه المستحيل، تلقت أمر إخلاء فوري، وكأنّ كلّ هذا العذاب لم يكن كافيًا بعد. كلّ قهرٍ هنا يلد قهرًا أكبر، وكلّ دقيقةٍ تظن أنّك بلغت فيها قاع الجحيم، تُريك الدقيقة التالية جحيمًا أعمق، أقسى، وأشد إذلالًا.

عشرات النساء اللواتي بالكاد يحملن أجسادهن الممزقة بالمخاض، أُجبرن على الركض للنجاة. كابرن على الألم، على النزيف، على الارتجاف، حتى سقطت بعضهن أرضًا، أجسادهن رفضت فكرة الضغط أكثر، كأنّها أعلنت العصيان الأخير على البقاء.

في الزوايا، نساء يحتضن أطفالًا خدّجًا لم تكتمل أنفاسهم بعد، يهربن بهم كما يُهرب اللهيب من الحريق. لكن الحريق لحق بهن — غازٌ أطلقه الجيش ببرودٍ مميت، اخترق الهواء والرحم والرئتين الصغيرة.

لم تحتمل أجهزة أولئك المواليد حجم الحقد في الجو، فذابت أنفاسهم في الهواء قبل أن تكتمل صرخاتهم الأولى. مواليد لم يبلغوا من العمر سوى ساعات، دخلوا الحياة ليغادروها فورًا — على صدورٍ تنزف، وأذرعٍ ترتجف، وأعينٍ لم تعرف بعد معنى النجاة.

سقط وجه الإنسانية هنا مع كلّ صرخةٍ أنثوية تُشقّ في هذه المدينة المنكوبة. لم يبقَ من العالم سوى صمته، وصورة امرأة تنزف وهي تُرضع طفلًا لا يعرف إن كان قد وُلد ليعيش، أم ليُكمل طابور الموت.

هكذا تُدار هذه الحرب: تُخرج الأمهات من غرف الولادة إلى ساحات القصف، وتحوّل المواليد من وعودٍ بالحياة إلى جثث صغيرة ملفوفة بضماداتٍ ما زالت دافئة.

 

شارك

مقالات ذات صلة