مدونات

“لا مرة أخرى”.. ذاكرة الأرجنتين وسوريا

نوفمبر 7, 2025

“لا مرة أخرى”.. ذاكرة الأرجنتين وسوريا

عصام يزبك

قد يبدو مصطلح العدالة الانتقالية معقداً أو غامضاً حين نتحدّث عنه، لكنّه في جوهره ليس سوى محاولة لفهم الماضي بكلّ ما يحمله من آلام، والسعي نحو تضميد الجراح وبناء مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية.
إنّها ليست حدثاً عابراً، بل عملية طويلة ومعقدة تتطلب النفس الطويل، والإيمان العميق بأنّ العدالة ركيزة من ركائز التنمية والتقدم، وأنّ المجتمعات لا تنهض إلا حين تنظر إلى ماضيها بشجاعة وصدق.

مفهوم العدالة الانتقالية: بين الجرح والشفاء.
تتعامل العدالة الانتقالية مع الظروف الاستثنائية التي تمر بها الشعوب عقب فترات القمع والصراع، حيث يكون الهدف وقف الانتهاكات، معالجة آثارها، وضمان عدم تكرارها مستقبلاً.
وتتخذ هذه العملية أشكالاً متعددة بحسب طبيعة كلّ مجتمع، فبعض الدول تميل نحو المصالحة والعفو، وأخرى نحو المحاكمات والمساءلة، بينما تجمع دول ثالثة بين الإصلاح المؤسسي والتوثيق التاريخي.
لكن القاسم المشترك بين كلّ التجارب هو كشف الحقيقة وتوثيقها، لأنّ العدالة لا يمكن أن تزدهر في غياب الذاكرة.


من المتة إلى الذاكرة: خيط خفي بين سوريا والأرجنتين.
منذ قرن من الزمان، عبرت سفن السوريين نحو الأرجنتين بحثاً عن حياة أفضل في بدايات القرن العشرين. وعندما عادوا إلى وطنهم، حملوا معهم عشبة المتة التي أصبحت جزءاً من الثقافة السورية اليومية.
واليوم، بعد 100 عام، تعود الأرجنتين لتقدّم درساً جديداً لسوريا، ليس في الأعشاب هذه المرة، بل في كيفية التئام الجراح الوطنية بعد عهود الاستبداد والظلم.
تتشابه التجربتان أكثر ممّا يبدو: الاختفاء القسري، القمع، التعذيب، وانتهاك الكرامة الإنسانية. ومع ذلك، نجحت الأرجنتين، رغم طول الطريق، في تحويل الألم إلى ذاكرة، والذاكرة إلى عدالة.


الأرجنتين: من “الحرب القذرة” إلى دولة الذاكرة.
شهدت الأرجنتين فترة حكم عسكري قاسٍ بين عامي 1976 و1983، تخللتها عمليات خطف وقتل وتعذيب لآلاف المواطنين.
ومع سقوط النظام العسكري وعودة الديمقراطية، بدأ المجتمع الأرجنتيني مسار العدالة الانتقالية، الذي ما يزال مستمراً حتى اليوم.
اعتمدت التجربة الأرجنتينية على 3 مسارات متكاملة:
• المحاسبة القضائية:
حتى عام 2017، أصدرت المحاكم الأرجنتينية أحكاماً بإدانة 789 شخصاً في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، بينهم الديكتاتور خورخي فيديلا وكبار قادة الجيش.
• الذاكرة والتخليد:
تحوّلت مراكز الاعتقال السابقة إلى متحف للذاكرة وحقوق الإنسان، أبرزها مدرسة الميكانيكا البحرية (ESMA)، كما أُقيمت حديقة الذاكرة على ضفاف نهر لابلاتا، حيث أُلقي بالضحايا في الماضي.
• ردّ الاعتبار للضحايا:
أطلقت الحكومة برامج تعويض واسعة، وأنشأت بنكاً وطنياً للبيانات الجينية ساعد في التعرف على أكثر من 130 من “أطفال مايو” الذين خُطفوا من أمهاتهم خلال الحقبة العسكرية.


“Nunca Más”: الذاكرة ضمانة للمستقبل.
رفعت لجنة الحقيقة الأرجنتينية شعارها الشهير “Nunca Más” (لا مرة أخرى)، وهو أكثر من مجرّد شعار إنّه تعهد وطني بألّا يُسمح بتكرار الماضي.
تجلّى هذا الالتزام بالذاكرة على 3 مستويات:
• رمزي:
تحوّلت ساحة مايو إلى مزارٍ حي، حيث تجتمع الأمهات والجدات كلّ خميس حاملات صور أحبائهن المفقودين. هذه المسيرات الأسبوعية تحوّلت إلى طقس مقاوم للنسيان.
• مؤسسي:
أُعيد تأهيل مواقع التعذيب كمراكز للتعليم والتذكير، ليتحوّل الألم إلى درس دائم في الحرية وحقوق الإنسان.
• تعليمي:
أُدرجت فترة “الحرب القذرة” في المناهج الدراسية، وتنظَّم زيارات طلابية إلى متاحف الذاكرة، ليصبح الماضي منهجاً للتربية على الديمقراطية.
الذاكرة تصنع العدالة.
في التجربة الأرجنتينية، لم تكن الذاكرة مجرد حنين إلى الماضي، بل أداة للعدالة نفسها، فكلّ طفل يُعاد إلى أسرته بفضل البنك الجيني، وكلّ اسم يُضاف إلى نصب الضحايا، هو انتصار صغير في معركة طويلة من أجل الكرامة والحقيقة.
واليوم، بعد 4 عقود من سقوط النظام العسكري، ما تزال الذاكرة حيّة: الأمهات يواصلن مسيراتهن، المتاحف تستقبل الزوار، والبحث عن الأطفال المفقودين لم يتوقف.
وكما تقول الجدّات: “الذاكرة تصنع الحياة”، فهي تذكير بأنّ العدالة ليست فعلاً قانونياً فقط، بل فعل حبٍّ للحياة نفسها.


سوريا.. حين تستفيق الذاكرة.
تُقدّم تجربة الأرجنتين دروساً ثمينة لسوريا المستقبل، حيث تتشابه الجراح بشكلٍ مؤلم: كما اختفى عشرات الآلاف في الأرجنتين، اختفى مئات الآلاف في سوريا. وكما حوّل العسكر مدرسة الميكانيكا البحرية إلى مركز تعذيب، حوّل النظام السوري سجن صيدنايا ومئات المعتقلات إلى مسالخ بشرية.
وكما وثّق تقرير “Nunca Más” نحو 340 مركز تعذيب، وثّقت المنظمات السورية آلاف المراكز المشابهة.
وربما تكون أعظم دروس الأرجنتين أنّ العدالة، مهما تأخرت، لا تموت. فالذاكرة حين تتحوّل إلى مؤسسات، ومناهج، ومتاحف، تصبح قوة بناء لا هدم، وتمنح المجتمعات الشجاعة لبدء فصل جديد عنوانه: “لن يتكرر ذلك مرة أخرى.”

العدالة طريق حياة.
إنّ العدالة الانتقالية ليست ترفاً سياسياً ولا مطلباً نخبوياً، بل شرطاً من شروط الشفاء الوطني.
والتجربة الأرجنتينية تذكّرنا بأنّ طريق العدالة طويل، لكنّه ممكن، حين يؤمن الناس بقدرتهم على تذكّر الماضي دون أن يعيشوا فيه، وعلى تحويل الذاكرة إلى وعدٍ بمستقبل أكثر عدلاً وإنسانية.

شارك

مقالات ذات صلة