مدونات

السودان.. جراح منسية في جسد الأمة المنهك

نوفمبر 6, 2025

السودان.. جراح منسية في جسد الأمة المنهك

الكاتبة: أمة الرحمن العفوري

في قلب القارة السمراء، وعلى ضفاف النيل الأزرق، حيث ترسو الحضارات العريقة وتُنسج الأساطير حول كلّ زاويةٍ من ترابها، يقف السودان اليوم منكسر الجناح، مثخن الجراح، مثقلًا بنوائب الدهر، مصلوبًا على أسوار تاريخٍ عربيٍّ متداعٍ، يئن بصوتٍ خافتٍ لا يكاد يُسمع وسط ضجيج البنادق وأزيز الطائرات. هذا الوطن المترامي الأطراف، الذي حلم له أبناؤه والحالمون من حوله بدورٍ ريادي في نهضة الأمة، تحوّل اليوم إلى أرضٍ تمزقها الصراعات الداخلية وتتناهبها الأطماع الخارجية، تُدار فيها المعارك بأيدٍ محلية رخيصة توزّع الموت بالتساوي على أرواح الأبرياء.

الحرب في السودان ليست وليدة اللحظة، بل امتدادٌ لماضٍ عربيٍّ مثقلٍ بالأخطاء؛ حيث كان الصراع على الكرسي دومًا أقوى من نداء الوطن، وحيث قدّم الزعيم المؤتمن وطنه قربانًا لبقاء عرشه، حتى وإن لم يبق معه أحد.

في مشهدٍ عبثيٍّ تتكرّر تفاصيله في أكثر من بلدٍ عربي، يُعاد إنتاج الخراب بالأدوات ذاتها: طموحٌ منفلت، وجنرالات يتنازعون الولاء للسلطة لا للوطن، وميليشياتٌ تتغذى على دماء المدنيين الأبرياء. لم يعد القتال في السودان بين جيشٍ وميليشيا فحسب، بل بين من يبحث عن وطنٍ يحتضن أبناءه، وآخر لا يرى في الخرائط سوى مكاسب مؤقتة تجري تحتها أنهارٌ من الدم.

لكن مأساة السودان تختلف عن غيرها، لا بحجم العنف فحسب، بل بعمق الصمت المحيط بها — صمتٌ عربيٌّ مريب، لا يليق بإخوة العروبة والدم، وتواطؤٌ يخفيه الحياد والنفاق، ويعريه المال. كيف لأمةٍ تدّعي الانتماء إلى مصيرٍ مشترك أن تقف متفرجة على جراح السودان، تكتفي بالمراقبة، وربما التبرير، بل وأحيانًا التمويل وإذكاء الفتنة؟ كيف أصبحت القضايا العربية الكبرى تُدار وكأنّها نزاعاتٌ على كوكبٍ آخر، لا كجراحٍ في الجسد الواحد ولا ككوارث استراتيجية تمسّ المنطقة بأسرها؟

ما يحدث في السودان اليوم ليس صراعًا داخليًّا فحسب، بل نسخةٌ صريحة من مشروع التفكيك العربي الخبيث؛ مشروع لا يحتاج إلى جيوشٍ أجنبية ما دامت الفتنة تنبت من الداخل، والعِلّة تسكن بين الأضلاع، وما دام الأبناء هم من يحملون السكاكين ويذبحون بها أوطانهم. إنّه مشروع يُعيد تشكيل المنطقة لا بالحوار بل بالدم، لا بالتنمية والبناء بل بالهدم، وبحدودٍ تُرسم بالنار لا بالحبر.

قد يكون السودان أغنى بلاد العرب بالثروات الطبيعية، لكنّه اليوم أفقرهم بالأمان والاستقرار. بلدٌ تملك أرضه موارد تكفي لإطعام مئات الملايين وتغذية الاقتصاد العالمي بالذهب واليورانيوم، وموقعه مفتاحٌ لمعادلات الأمن الإقليمي، لكنّه صار رهينةً لصراعٍ على السلطة تُدار خطوطه من الخارج، وتُنفذ بأيادٍ محلية أعماها نهم المال وهوس السلطة عن حب الوطن.

إنّها خيانةٌ لا تُقرأ في كتب التاريخ، بل تُشاهد يوميًا على الشاشات لتكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الأمة الدامي، وتُخط سطوره دماء الأطفال والنساء وشتات العائلات التي لم تعد تعرف إلى أين تنتمي. دارفور، الفاشر، الخرطوم — مدن كانت قلاعًا للثقافة والتسامح، تحولت إلى ساحاتٍ لحربٍ ضروسٍ لا أخلاق لها، تُرتكب فيها الجرائم باسم الوطن، ويُباد فيها الأبرياء تحت راياتٍ تتشدق بالإنقاذ الوطني.

لكن الخراب لا يقف عند حدود السودان. فكما أُريد للعراق أن يسقط ليفتح الباب أمام الفوضى، وكما ضُربت سوريا وليبيا واليمن باسم “التحرير”، يُراد للسودان أن يتحلل — لا ليولد سودانٌ جديد، بل ليُحاصر العمق المصري، ويُقوّض أمنه، ويُجهض كلّ مشروعٍ عربيٍّ مستقل. إنّها لعبة الاستعمار الجديد تُدار بأدواتٍ عربية، ويُدفع ثمنها من جسد الأمة ودماء أبنائها.

ومصر، التي ظلّت عبر التاريخ قلب الأمة، ليست بمنأى عن هذا العبث. فكلما ضعف السودان، اشتدت الضغوط على مصر من جنوبها عبر أزمة مياه النيل، ومن غربها عبر الفوضى الليبية، ومن شرقها عبر النزيف المستمر في غزّة. إنّها خطواتٌ مدروسة لتطويق الدور المصري وإشغاله عن موقعه الريادي ودوره الطبيعي في قيادة المنطقة أو حتى في حماية ذاته.

والأخطر من كلّ ذلك هو محاولات تحييد الوعي العربي. فبينما تُرتكب المجازر في السودان، يُغرق الإعلام الجماهير بموجاتٍ من الترفيه والتضليل حتى باتت المذابح تُمرر تحت عنوان “نزاع داخلي”، ويُشيطن الضحايا، ويُجمّل الجلادون، ويُقنع المواطن العربي بأنّ ما يجري لا يعنيه.

لكن الحقيقة أنّ كلّ ما يجري يعنينا. فالعروبة ليست نشيدًا صباحيًا، بل عقدٌ أخلاقيٌّ وثقافيٌّ إن انكسر في السودان، سينكسر في الجزائر أو تونس أو أيّ وطنٍ عربيٍّ آخر. الدم العربي واحد، والخراب لا يفرق بين اللهجات ولا الحدود، والشتات لا يعرف هويةً أو علمًا.

لقد آن الأوان أن نعيد تعريف الوطنية، لا كولاءٍ لنظام، بل كالتزامٍ بقيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية. أن نُعلّم أبناءنا أنّ نصرة المظلوم لا تحتاج إلى إذنٍ سياسي، وأنّ الصمت على الجريمة جريمةٌ مضاعفة، وأنّ الخراب الذي يبدأ في دارفور لن ينتهي هناك، بل سيطرق أبواب الضمائر؛ فإن وُجد فيها حياة انتفضت، وإن كانت ميتة سقطنا جميعًا.

السودان لا يحتاج فقط إلى مبادرات سلامٍ شكلية، بل إلى نهضةٍ أخلاقيةٍ شاملة على مستوى الأمة. يحتاج إلى إعلامٍ حرٍّ شجاعٍ يقول الحقيقة، لا إلى منابر تروّج لإشاعاتٍ تخدم أجنداتٍ خارجية. يحتاج إلى نخبٍ فكريةٍ تُدرك أنّ معركة الوعي هي المعركة الحقيقية، وأنّ تبرير الطغيان خيانة لا تُغتفر.

وفي الختام، نستحضر صوت الشاعر السوداني القائل:
«للموت أكبر كعكةٍ في عيد مولده… تضجّ بلحمنا وتزخرفُ».
ليُذكّرنا بأنّ الموت في بلاد العرب لم يعد مصادفة، بل مشروعًا. وأنّ الصمت لم يعد حيادًا، بل شراكة في الدم. وأنّ من لا ينتفض اليوم للسودان، سيبكي غدًا على وطنه حين لا يكون بينه وبين الموت سوى صمتٍ تعوّد أن يبرر كلّ شيء.

والسلام حقًا من أسماء الله الحسنى.

شارك

مقالات ذات صلة