مدونات

كرة القدم بين التسلية والتتفيه (1)

نوفمبر 5, 2025

كرة القدم بين التسلية والتتفيه (1)

 

تُعدّ كرة القدم واحدة من أبرز الرياضات في عالم التسلية والترفيه، بما تمنحه من متعة وفرجة وإثارة لعشاقها، سواء عبر المنافسة الحامية على أرض الملاعب أو من خلال المشاهدة الجماهيرية الجارفة. فهي نتاج ماكينة عالمية ضخمة، تمتلك من المال والإعلام والتأثير ما يجعلها صناعة قائمة بذاتها، مدعومة في الغالب من أنظمةٍ ريعية تبحث عن توجيه العقول نحو اللهو. غير أنّ حبّ التسلية فطرة بشرية، إذ يولد الإنسان وفي داخله ميل طبيعي إلى الترويح عن النفس، والبحث عن المتعة البريئة التي تمنحه لحظات من النشوة والفرح، سواء مارس الرياضة بنفسه أو تابعها عبر الشاشات أو من المدرجات المصممة بإبداع معماري يأسر الأبصار.

ولا شكّ أنّ الفضل في تطوير هذه الرياضة وإتقانها يعود إلى الغرب، وبخاصة الإنجليز، الذين قدّموا للعالم نموذجًا متقنًا للترفيه المنظّم. فالكرة الحديثة تنتمي إلى ثقافة الرفاه، والترف جزء أصيل في طبيعة الإنسان، لا يمكن منعه أو قمعه. غير أنّ التساؤل الجوهري هو: أين يكمن الإشكال في هذه اللعبة ما دامت في إطار التسلية؟ وما الذي يجعلها موضع نقدٍ أو تُربط أحيانًا بالتفاهة والديكتاتورية؟

قبل الإجابة، تجدر الإشارة إلى مفارقة لافتة في عالمنا العربي: فبرغم الهوس الجماهيري بكرة القدم، لم يُتوَّج فريق عربي واحد بكأس العالم، كما أنّ الفارق في الأداء الاحترافي بين لاعبينا ولاعبي أوروبا شاسع لا يُقاس. ومع ذلك، تظل الجماهير العربية أكثر ولعًا بالكرة الأوروبية، لأنّها تقدم نموذجًا راقيًا في التنظيم والانضباط والروح الرياضية، بينما ما زالت بعض ملاعبنا العربية مسرحًا للشغب والعنف وسوء التنظيم. هذه المفارقة تختصر المسافة الحضارية بين عالمين؛ عالمٍ بلغ الرفاه الذي يُنتج التسلية الراقية، وعالمٍ لا يزال يلهو في الفروع قبل أن يبني الأصول.

إشكاليات التسلية بكرة القدم.

لا مشكلة في أن يفرح الإنسان ويتسلّى، فالترويح حاجة إنسانية طبيعية، شرط ألا يتحوّل إلى أذى للذات أو للمجتمع. لكن حين تتجاوز كرة القدم حدود التسلية لتصبح إدمانًا يسرق الوقت والوعي، فإنّها تتحوّل إلى خطرٍ حقيقي. فالمشاهِد الذي يقضي الساعات أمام الشاشات، متنقّلًا بين المباريات والأخبار الرياضية، يفقد تدريجيًا أغلى ما يملك: وقته، وهو في جوهره حياته ذاتها.

ذلك الشاب الذي يعرف تفاصيل اللاعبين من تسريحاتهم إلى حياتهم الخاصة، بينما يجهل قضايا أمته وتاريخها، هو نموذج لإنسان سُلب وعيه باسم الترفيه. الإدمان هنا لا يُنتج معرفة ولا مهارة، بل يخلق عقلًا فارغًا، قابلًا للانقياد، يخدم أنظمة تبحث عن جماهير منشغلة بالتوافه، غافلة عن الواقع. إنّنا لا نعارض ممارسة كرة القدم كنشاط بدني وصحي، بل نشجعها. مشكلتنا مع من يعيشها من خلف الشاشات، مستهلكًا لا منتجًا، متفرجًا لا فاعلًا، حتى غدت الملاعب معبده والشاشات قبلة يومه.

إشكالية إطلاق الترفيه.

الخطر الأكبر لا يكمن في الترفيه بحد ذاته، بل في تحوّله إلى ثقافةٍ مطلقة لا تعترف بزمان أو مكان. حين تُقدَّس الفرجة وتُعطل القيم، يصبح الترفيه غايةً بذاته لا وسيلةً للترويح. فالمترفّه الذي يتابع مباراة في لحظة تُباد فيها غزّة أو تُقصف فيها فلسطين، ولا تهتزّ له مشاعر، هو إنسان فقد جزءًا من إنسانيته. لقد كبّلت ثقافة الترفيه المفرط الإنسان داخل قوقعة الأنانية، وحوّلته من كائن واعٍ إلى مستهلكٍ بارد، لا يرى في العالم إلا ملعبًا كبيرًا للفرجة. هنا، يصبح الوعي هو الضحية الأولى.

سؤال الخصوصية.

من المعلوم أنّ كرة القدم نشأت في بيئةٍ غربية متقدمة، قطعت مسافات حضارية هائلة في العلم والتنظيم والإنتاج. أوروبا صنعت حضارتها بالعقول قبل الأقدام، ثم جاءت كرة القدم كنتاجٍ طبيعي لمرحلة الرفاه. أمّا نحن، فنتعامل مع هذه اللعبة وكأنّها غاية في ذاتها لا انعكاسٌ لتطورٍ سابق. مجتمعاتنا لم تبلغ بعدُ مرحلة الرفاه التي تتيح لها الانغماس في التسلية دون ضرر. ما زلنا في حاجة إلى العمل، إلى النهوض من الكسل والتبعية، إلى تحرير الاقتصاد والفكر والثقافة قبل أن نتفرغ للفرجة. إنّنا بحاجةٍ إلى أن نُفعّل العقل قبل القدم، فحين ننتج ونبدع ونستقل، يصبح الترفيه حقًا مستحقًا لا هروبًا من العجز.

كرة القدم ونظرية المؤامرة.

من أبرز آثار هذا الإدمان أنّه يفرغ العقول من محتواها، ويجعلها مهيأة لتصديق الأوهام. فمدمن الشاشات الرياضية يصبح هش التفكير، سطحي الوعي، سريع التصديق لكلّ ما يبرّر انغلاقه. شاهدتُ ذات يوم في صالون حلاقة أثناء حرب غزّة أحدهم يطالب بتغيير قناة إخبارية كانت تبث نبأ استشهاد الصحفي أنس الشريف، مدعيًا أنّ الخبر “مسرحية” وأنّ كلّ ما يحدث مؤامرة كبرى. لم يكن يعرف حتى اسم الشهيد، لكنّه كان مقتنعًا بأنّ العالم يُخدعه.

هذا المشهد يكشف كيف يمكن أن تصنع كرة القدم عقلًا مفرغًا من الفهم، غارقًا في السطحية حتى يلتبس عليه الحق بالباطل. إنّها لا تُفرز فقط عقولًا تافهة، بل تُغذي مناخًا خصبًا لنظريات المؤامرة، حيث يسهل التلاعب بمن فقد بوصلته الفكرية. هكذا تتحوّل الساحرة المستديرة من وسيلةٍ تسلية إلى أداة تخدير، تُميت الوعي وتُعيد إنتاج الجهل في ثوب المتعة.

شارك

مقالات ذات صلة