المنفى والذاكرة.. إعادة تعريف الوطن السوري
المنفى والذاكرة.. إعادة تعريف الوطن السوري
بانة منلامنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، انقلبت العلاقة بين السوريين ووطنهم من يقينٍ مستقرّ إلى سؤال مفتوح. لم يعد الوطن مكاناً محدداً أو هويةً جاهزة، بل أصبح تجربةً متحركة تتبدل بتبدل الظروف. فبين من غادروا البلاد منذ السنوات الأولى بحثاً عن الأمان، ومن بقوا حتى سقوط النظام، أعاد الجميع تعرف معنى الانتماء في ضوء تحولاتٍ عميقة طالت الذاكرة والهوية والدولة.ومع انهيار البنية التي كانت تمثل “الدولة السورية” وتبدل موقعها في وعي الأفراد، تَشَكّل وعيٌ جديد بالوطن يتجاوز الانفعال العاطفي، ويقترب من الإدراك التحليلي للعلاقة بين الإنسان والمكان. صار الانتماء تجربة جماعية تتقاطع فيها مشاعر الفقد مع أسئلة المسؤولية، وتعبّر عن انتقال السوري من مفهوم الوطن كإقامة إلى مفهوم الوطن وعيٍ اجتماعي وثقافي يعاد إنتاجه باستمرار. المنفى اختبار لإعادة تشكيل الهوية.المنفى مثّل أول فضاء حقيقي لاختبار معنى الانتماء خارج الإطار الجغرافي. فالهجرة لم تكن حدثاً جغرافياً بقدر ما كانت انتقالاً معرفياً من هويةٍ منسوبة إلى وطنٍ محدد، إلى هويةٍ تبحث عن إعادة تعريف ذاتها في فضاءٍ عالمي جديد.في المجتمعات التي استقر فيها السوريون، برزت مظاهر جديدة للانتماء تمثّلت في الروابط الثقافية والجماعات الافتراضية والمبادرات المجتمعية التي حافظت على الذاكرة الوطنية، هكذا أصبح الارتباط بالوطن فعلاً من أفعال الوعي، يتجلّى في اللغة والحنين والممارسات اليومية، لا في الوجود المادي على الأرض.ومع مرور الوقت، تحوّل المنفى إلى مختبرٍ لإعادة بناء العلاقة مع سوريا من منظورٍ أكثر عقلانية، إذ لم يعد الانتماء ردّة فعلٍ عاطفية، بل ممارسة نقدية تستحضر الوطن كقيمة إنسانية وثقافية لا كسلطة سياسية. ومن هنا، باتت الجغرافيا تفقد قدرتها على احتكار المعنى، بينما أصبح الوعي بالهوية السورية عنصراً يعاد تشكيله وفق شروط الاغتراب والتفاعل مع الآخر. البقاء في الداخل.. هوية تُختبر بالصمود.في المقابل، شكّل البقاء داخل البلاد شكلاً مختلفاً من أشكال الانتماء، يمكن وصفه بـ”الانتماء العملي” القائم على الصمود، فالحياة في المدن التي تآكلت تحت وطأة الحرب لم تكن مجرّد استمرارٍ يومي، بل فعل مقاومة ضد العدمية والانهيار.الذين بقوا في سوريا وجدوا أنفسھم أمام تجربةٍ قاسية من البقاء ضمن فضاء متحوّل، نظام يترنح، مؤسسات تتهاوى، واقتصاد ينهار. ومع ذلك، استمر الناس في إنتاج أنماطٍ جديدة من الحياة اليومية، فحوّلوا الانتماء إلى ممارسة اجتماعية تقوم على الحفاظ على الإيقاع الطبيعي للوجود داخل الفوضى.ومع سقوط النظام لاحقاً، تحوّل هذا الشكل من الانتماء إلى وعيٍ جديد بمسؤولية الوجود داخل المكان، ولم يعد البقاء مجرّد فعل صمود، بل إعادة بناء علاقة مع وطنٍ يتغير شكله السياسي والاجتماعي. هنا لم يعد الانتماء شعوراً بالولاء، بل التزاماً بالمشاركة في إعادة المعنى إلى المكان الذي بقي شاهداً على التجربة. الذاكرة المشتركة جسر لإعادة بناء الوعي الوطنيرغم التشتت الجغرافي والاختلاف في التجارب، نشأت لدى السوريين ذاكرة وطنية مشتركة تجاوزت حدود الداخل والخارج. هذه الذاكرة لم تكن فقط خزاناً للمشاعر، بل آلية لبناء سردية جديدة تعيد توحيد التجربة السورية عبر الفن والإعلام والبحث والتوثيق.الذاكرة هنا لا تعمل بوصفھا تذكّراً للماضي، بل أداة لفهم الذات الوطنية، إنها التي تحفظ فكرة الوطن حين يغيب شكله، وتعيد إنتاجه كقيمة رمزية داخل الوعي الجمعي. من خلالها، وجد السوريون مساحةً يتلاقى فيها من غادروا ومن بقوا، حيث يجتمع الطرفان حول إدراكٍ مشترك بأنّ الانتماء لا يقاس بالمسافة، بل بمدى الحضور في الذاكرة الجماعية.لقد ألغت هذه الذاكرة احتكار السلطة للخطاب الوطني، وسمحت بظهور روايات متعددة تشكل مجتمعة “الهوية السورية الممكنة” هوية ناتجة عن الوعي لا عن القهر، وعن التجربة لا عن الشعارات. الانتماء في مرحلة ما بعد الأسد.مع سقوط النظام، لم يعد الانتماء مرتبطاً بشرعية السلطة أو الولاء لها، بل أصبح مسألة فكرية تتعلق بإعادة تعريف مفهوم الدولة ذاتها. المرحلة الجديدة فتحت الباب أمام نقاشٍ غير مسبوق حول ماهية الوطن وموقع المواطن داخله.الكثير من السوريين بدؤوا يتعاملون مع الانتماء بوصفه فعلاً مؤسسياً لا وجدانياً، أي انتماءً يستند إلى المشاركة السياسية والاجتماعية، وإلى المساهمة في إعادة بناء البنية الوطنية على أسسٍ جديدة. ومع غياب الدولة القديمة، تحوّل مفهوم الوطن إلى مشروعٍ قابل للتفاوض وإعادة التشكيل، ما جعل الانتماء أداةً لإعادة رسم المجال العام بدل أن يكون مجرّد ولاء رمزي.هذه التحولات تشير إلى أنّ الانتماء بعد الحرب لم يعد امتداداً للماضي، بل تأسيساً لوعيٍ جديد يرى في الوطن مسؤولية جماعية تُمارس لا ذكرى تُستعاد، فالسؤال لم يعد “لمن ننتمي؟” بل “كيف نعيد بناء ما ننتمي إليه؟”. الحنين طاقة رمزية لا استغراق في الماضي.الحنين، رغم طابعه العاطفي، أصبح في السياق السوري طاقة رمزية تسهم في حفظ الرابط بين الإنسان والمكان، فلم يعد مجرّد استرجاعٍ للماضي، بل آلية لإبقاء الوطن حياً في الوعي.فكلّ ما يربط السوري بذاكرته من اللغة، اللهجة، والتفاصيل اليومية تحوّل إلى أدواتٍ لحماية الهوية من الذوبان.لكن هذا الحنين نفسه لم يعد كافياً بوصفه شعوراً؛ لقد تطوّر إلىٍ من أشكال الوعي النقدي، حيث صار استحضار الماضي وسيلة لطرح أسئلة المستقبل. أمّا الأجيال التي نشأت خلال الحرب أو في المنفى، فقد بدأت تبني انتماءها على أساسٍ مختلف: وطنٌ لا يقاس بما فقُد، بل بما يمكن بناؤه.بھذا المعنى، يتحوّل الحنين من نوستالجيا إلى طاقةٍ دافعة نحو الفعل، ويصبح الانتماء في جوهره وعداً بالمستقبل، لا تكراراً للماضي.بعد أكثر من عقدٍ من الحرب والتحولات، لم يعد الانتماء إلى الوطن في التجربة السورية مجرّد شعور أو شعار، بل تجربة فكرية واجتماعية تتقاطع فيها الذاكرة مع المسؤولية، فالسوري اليوم، سواء عاش الغياب أو البقاء، أعاد اكتشاف الوطن بوصفه مشروعاً مفتوحاً لا كياناً منتهياً.وأثبتت التجربة أنّ الانتماء لا يلغى بالمنفى، ولا يختصر بالبقاء، بل يٌعاد تشكيله داخل الوعي الجمعي كلما تبدّلت الظروف. وهكذا، تظلّ سوريا بالنسبة إلى أبنائها فكرة حية تُعاد كتابتها باستمرار، وطناً يتجاوز .الجغرافيا نحو الذاكرة، ويتحوّل من مساحةٍ للحزن إلى مجالٍ لبناء هوية جديدة تتّسع لما تبقى من المستقبل.