مجتمع

ديوك القصر وخراب البلاد

نوفمبر 3, 2025

ديوك القصر وخراب البلاد

يونس العيسى

 

هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان قارورة عطر، هكذا سجّل الشاعر الراحل نزار قباني شهادته عن بيته الذي وُلد ونشأ فيه بدمشق بين الياسمين والورد، مضيفاً: “إنّني لا أحاول رشوتكم بتشبيهٍ بليغ، ولكن ثقوا أنّني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، وإنّما أظلم دارنا”.

شهادة نزار كانت عندما كان يسكن الشام وهي تسكن روحه، وقد رحل الشاعر بعيداً عن دمشق التي أحبها وكان حبه لها ذبّاحًا، لأنّ لعنة حكم آل الأسد حلّت بدياره، فأُرغم على تركها والعيش في أوروبا، وترك دمشق التي كانت تتسلّق على أصابعه كلما أراد أن يكتب.

فماذا لو عاش نزار حتى يومنا هذا وشاهد حال الشام الآن؟ وكيف حوّلها نظام الأسد لبؤرة خراب بكلّ مكانٍ؟ وبردى تجري به مياه المجارير وتفوح منه روائح كريهة، وحيثما تجوّلت تجد خراباً من ذلك النظام الذي جثم سنين طوال على صدر الشام، نظام مستبد طاغٍ كان مشغولاً بحماية نفسه وسرقة خيرات البلد وتنمية وزيادة انتفاخ جيبه، ووظّف كلّ البلاد والعباد لخدمته، محاطاً بأمنٍ قوي، ويعيش في قصورٍ فارهة، ويستمتع بغنى مالي، حتى أنّه بنى مدارس تشبه السجون.

في المقابل عاش الشعب السوري بظل لعنة آل الأسد عيشة الكفاف؛ مدارس متهالكة، مستشفيات مكتظة، شوارع محفّرة، بيوت متواضعة، نظام لم يعمل لمستقبل الشعب، بل كان لديه شعور أنّ سنوات حكمه لن تدوم، فعاش في عقلية النازلين في الفنادق، يريد أن يستهلك كلّ ما تصل له يده، وفي النهاية قال الشعب الثائر كلمته وفرّ نزيل الشام وعصابته هاربين.

لعنة حكم آل الأسد جثمت فوق صدر الشام بجيوشهم ودباباتهم وأمنهم فكانوا يتسلطون على الشعب السوري، ويحكمونه بالنار والحديد، الدكتاتور الأول تحت الأرض، ووريثه بالحكم فرّ خارج البلاد، وتركوا خلفهم مقابر جماعية وسجوناً تتشقّق جدرانها على أنين الضحايا.

صورهم وأصنامهم كانت تحتلّ كلّ المساحات المرئية وكلّ مداخل المدن وساحاتها، والآن أصبحت في “المزابل”، والتحقت بسجل إنجازاتهم بالتصحيح والتحديث كما كانوا يصفون عهد حكمهم،  فإنجازاتهم الوحيدة هي السجون والقبضة الأمنية التي كانت تروّع البلاد والعباد.

وجاء يوم التحرير والنصر لتصبح إنجازاتهم تماثيل شاهدة للحرية، التي كان ينشدها الشعب السوري للخلاص من لعنة حكمهم. أسرار لعنة آل الأسد وقمعهم الوحشي ما تزال شاهدة في كلّ ديار الشام، التي حولوها مزرعةً لحكمهم وموقعاً لبناء أنصابهم ورموزهم فوق الأرض، وذاكرة موت ورائحة جثث وعظام تحتها، يظهر مدى جبروتهم، فالطاغية المقبور تحت الأرض سلّم البلاد إلى ابنه الهارب، الذي تابع مهمة الموت التي بدأها الأسد الأب، وكل ذلك ترك سوريا ممزّقة بين لعنة الأب وابنه وصارت البلاد مقبرة للأرواح تحتها وإرادة الشعب فوقها.

فنهج الأسد القابع تحت الأرض، تابعه ابنه الهارب فوق الأرض من ضرورة عدم خروج السوريين خوفاً من هدم أركان جبروتهم وتركوهم في متاهةٍ للموت رسموها كخريطة طريق لحكمهم.

والسؤال السوري المطروح الآن: ما هي سُبل الخروج من متاهة الموت والدمار والخراب التي حلّت بالشام من خلال لعنة الأسد؟ وكيف نعيد كتابة تاريخ البلاد بعيداً عن النزعة العسكرية والأمنية التي أشاعتها سلطة آل الأسد الفاشية منذ تسلطها على حكم البلاد؟ وكيف نعيد صياغة خطابنا بدون مفردات القمع والتخويف والأوامر، التي كان يسمعها الشعب على مدار سنوات طوال من السلطة الحاكمة؟

كي نقاوم لعنة الأسد يجب أن نزيح أشباحه من كلّ مكانٍ ونفتح عقولنا على الحرية، واحترام الرأي المخالف ونكتب كلمات جديدة تصنع كرامة الإنسان، بعيداً عن اللغة التي كانت تجعل من الواقع الأسود أبيض. وعلى الحكومة في سوريا أن تستثمر في الشعب وقوته، لأنّ الشعب هو أساس ومنبع كلّ شيءٍ في البلد، بعد توفير تعليم وبنية تحتية تعليمية متطورة لأبنائه فالوطن الحرّ والمستقل يبنيه الشعب. 

السوريون كان يحكمهم نظام دكتاتوري كان يستثمر الدولة ومواردها وخيراتها في سبيل الحفاظ على دوام سلطته، وإسعاد نفسه وحاشيته وجنون عظمته وزيادة صناعة بؤس الشعب، هذا البؤس الذي كان يبرّره من خلال أكاذيب المقاومة والمواجهة ونشر الفساد وانحلال القيم الوطنية، وزيادة سلطة الافتراس للشعب بمختلف المجالات، وكان حال الشعب كسمكٍ في بحرٍ تفترسه حيتان السلطة وتجارها، وذلك على منوال زعيم السلطة الذي علّمهم سحر الافتراس مع انعدام القانون والقضاء النزيه والشريف.

قبل 45 سنة كتب نزار قباني قصيدة “في حارتنا ديك” التي أزعجت سلطة الديك السادي السفاح، وكانت نبوءةً وصوتَ حرية بكلماتها كل أهداف الثورة الصامتة حينها، وقد دقّت القصيدة ناقوس الخطر والحذر من تلك السلطة اللعينة، والآن لم يعد في قصور الشام أسود وديوك، والذين حرق الشعب الثائر كلّ أقنعتهم التي كانت تخفيهم خلفها، وداس الشعب كل جبروتهم وعنجهيتهم ولم يبق من ذكراهم سوى رموز خرابهم.

وضع الشعب كلّ بيادقه فوق الطاولة بلا مجاملة وبدون دبلوماسية أمام لعنة سلطة لم تبارح يوماً مربع طغيانها حتى فاتتها كلّ الفرص الضائعة وفرّ ديكها منتوف الريش هارباً.

شارك

مقالات ذات صلة