آراء
في السودان خرج من عمق الصحراء محمد حمدان دقلو — حميدتي — الذي يشبه الأرض التي أنجبته: أرض قاسية لا تعرف التوسط بين المتجاوِبات والأطراف. بدأ حياته راعيًا للإبل في دارفور، وانتهى به المطاف قائدًا لميليشيا تملك المال والسلاح وتفرض سلطتها بالحديد والنار والثأر. لم يكن حميدتي نتاج مؤسسة قائمة بل نتاج فراغ مؤسساتي وإداري؛ تشكّلت شخصيته في مناخٍ لا يرى في الدولة فكرة بل غنيمة. التحق بميليشيات الجنجويد التي استخدمها نظام البشير سابقًا لقمع التمرّد، وهناك تعلّم أنّ الولاء والطاعة العمياء أهم من الانضباط العقلاني، وأنّ بث الرعب في قلوب الناس أبلغ من القانون وتطبيقه. وحين تحوّلت قوات الدعم السريع إلى قوةٍ رسمية حملت معها روح الفوضى، فصارت القوة غايته الوحيدة، والقتل وسيلته للبقاء في موقعه.
من يراقب مسار حميدتي يدرك أنّ قيادته ليست عقلًا استراتيجيًا بل غريزة ثأر وغنيمة؛ يقود باندفاع لا يضع للخطر اعتبارًا ولا قيمة للعواقب، يوزّع الغنائم بدل توزيع المهام، ويستمد شرعيته من فوهة البندقية لا من احترام القانون. يحيط نفسه برجال يهابونه أكثر ممّا يثقون به، ويجعل الخوف وسيلة للإدارة والقيادة؛ إنّها قيادة قائمة على كاريزما الرعب، حيث يُصنع الولاء من شعور الخوف والطاعة العمياء من حرص على النجاة.
غير أنّ مشروع حميدتي ليس مشروعًا فرديًا بقدر ما هو انعكاس لبنية عربية مأزومة وعقلية ثأرية غريزية؛ لا تزال بعض العقول تقدس المتغلب وتقصي المنهزم، فلا عزاء للمبادئ ولا للكرامة. الذي سمح بصعوده هو ذاته الذي سكت أمام تحوّل ميليشياٍ إلى نظامٍ متوحش يقتل على الهوية.
حميدتي اليوم تجسيد لمرض قيادي عربي؛ حين يُستبدل الفكر بالثأر والحنكة بالبطش والشرعية بالقوة القاهرة، يظهر الوجه العاري للقيادة المصابة بالوحشية: لا تعرف معنى الدولة ولا ترى في الإنسان سوى زوائد على خريطة معركة. وما لم يُدرك العرب أنّ ظاهرة حميدتي ليست استثناءً بل نموذج لصناعة متمردين يخدمون أجندة الفوضى في المنطقة، فإنّ الغد سيُخرج نسخًا أخرى تتغذى على التوحش وفشلنا الجماعي في ترويج فكرة بناء الدولة المؤسسية وحماية الضمير الإنساني.
السودان اليوم لا يحتاج إلى “قيادة قوية” بقدر ما يحتاج إلى ردعٍ حقيقي لبعض الإدارات العربية التي تمدّ أيديها لإذكاء النار وتغذية الفتنة. الإدارات التي تتدخل في السودان لتمويل المتمرّدين والمتوحشين أمثال حميدتي تستخدم الفوضى وسيلةً لتوسيع النفوذ الإقليمي، فعلى تلك الأيادي أن تكفّ عن العبث بمصير السودان. وإذا كان التدخل لا بدّ منه، فليكن تدخلاً أخلاقيًّا ومؤسسيًّا لا مصلحيًّا انتقاميًّا ثأريًّا دمويًّا؛ تدخلاً يهدف إلى حماية الشرعية وحقن الدماء لا إلى إطالة عمر الفوضى. فالعروبة لا تُقاس بعدد التصريحات السياسية بل بقدرة العرب على اتخاذ قرار عاجل وفوري لمنع الخراب في السودان قبل أن يمتدّ إليهم وهم لا يشعرون.
هكذا يبقى حميدتي وقيادته المتوحِّشة اختبارًا صارخًا لضمير الأمة، ورسالة مفادها أنّ من يترك مؤسسات الدولة تنهار، يلد قادة على صورة الوحوش. القيادة التي تعتمد على فوهة البندقية لا تعرف إلا القتل والدمار. وإن كان حميدتي صنيعة الظلام، فلا بدّ لشرّ الوحش أن يرتدّ يومًا على صانعه، ولو طال الزمان.





