اقتصاد
حطّ الرئيس الشرع رحاله في مطار الملك خالد الدولي في 28 من تشرين الأول أكتوبر 2025، حيث جرى استقباله رسمياً من قِبل نائب أمير منطقة الرياض، الأمير محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز، وعدد من كبار المسؤولين السعوديين. وقد استُهلّت الزيارة بلقاء الرئيس السوري بولي العهد الأمير محمد بن سلمان في قصر اليمامة، في مشهدٍ حمل دلالات واضحة على عودة الدفء إلى العلاقات السورية السعودية واستئناف مسار التواصل السياسي والاقتصادي بين البلدين.
وفي إطار فعاليات منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار، الذي يُعد أحد أبرز المنصات الاقتصادية العالمية، ويُعرف إعلامياً بـ”دافوس الصحراء”، جاءت لقاءات الرئيس أحمد الشرع لتعكس عمق الانفتاح الاقتصادي السوري على المنطقة، وتحديداً على المملكة العربية السعودية التي تقود مسار التحوّل التنموي في ظل رؤيتها الاستراتيجية 2030. أجرى الشرع سلسلةً من الاجتماعات الثنائية مع عددٍ من كبار المسؤولين السعوديين، من بينهم وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان ووزير الداخلية الأمير عبد العزيز بن سعود، حيث تناولت المباحثات آفاق التعاون في مجالات الطاقة والأمن والبنية التحتية والتقنيات الحديثة، بما يضمن إعادة دمج سوريا تدريجيًّا في محيطها العربي اقتصاديًّا وأمنيًّا.
كما عقد الرئيس السوري لقاءً موسعاً مع وزير الاستثمار خالد الفالح، بحضور وفد اقتصادي سوري رفيع، لبحث فرص الشراكة في مشاريع إعادة الإعمار وتطوير البنية التحتية داخل سوريا. وقد مثّل هذا اللقاء خطوة عملية نحو تفعيل التعاون الاقتصادي المشترك بين البلدين، حيث تمّ التوافق على إطلاق مسارات استثمارية جديدة تهدف إلى تحريك رأس المال العربي باتجاه السوق السورية، وتوفير بيئة آمنة ومستقرة للاستثمار عبر أدوات قانونية وتنظيمية حديثة.
وفي هذا السياق، أعلن وزير الاستثمار السعودي عن حزمة مبادرات لتعزيز العلاقات الاقتصادية، من بينها توقيع اتفاقية ثنائية لحماية الاستثمارات، اعتُبرت نقلة نوعية في بناء الثقة بين الجانبين وتهيئة أرضية مؤسساتية لاستقطاب المستثمرين. كما أشار الوزير إلى التقدّم المحرز في مشاريع ربط الأنظمة المصرفية بين البلدين بما يتيح تنفيذ التحويلات المالية المباشرة، إلى جانب العمل على تأسيس صندوق استثماري سعودي تحت اسم «إيلاف» يُعنى بتمويل المشاريع الكبرى في مجالات الطاقة والاتصالات والبنية التحتية داخل سوريا، بما يعزّز فرص التعافي الاقتصادي السريع ويعيد الحيوية إلى القطاعات الإنتاجية المتوقفة منذ سنوات الحرب.
تُعدّ زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى المملكة العربية السعودية محطة مفصلية تحمل أبعاداً سياسية واقتصادية متشابكة، تعكس انتقال العلاقات السورية-السعودية من مستوى التنسيق الدبلوماسي إلى مرحلة أوسع من الشراكة التنموية. فالمحادثات التي جرت خلال الزيارة لم تكن مجرّد لقاء بروتوكولي، بل جسّدت توجّهاً استراتيجياً لإعادة تموضع سوريا داخل محيطها العربي، وتحويل مسار الانفتاح السياسي إلى تعاون اقتصادي عملي يُسهم في إعادة الإعمار واستعادة التوازن الاقتصادي الوطني.
تأتي هذه التحركات في لحظة حرجة يمرّ بها الاقتصاد السوري الذي أنهكه النزاع وتراكمات العقوبات، حيث تجاوزت تقديرات الخسائر المادية حاجز المئتي مليار دولار، فيما يحتاج تعافي القطاعات الأساسية إلى استثماراتٍ تفوق بكثير قدرات الدولة الحالية. ومن هذا المنطلق، تمثّل الشراكة مع المملكة العربية السعودية، بما تمتلكه من خبرة مالية واستثمارية واسعة، فرصة حقيقية لإطلاق مرحلة جديدة من الانتعاش الاقتصادي، عبر جذب رؤوس أموال عربية تُسهم في تمويل مشاريع البنية التحتية والطاقة والاتصالات، وإعادة تشغيل عجلة الإنتاج المحلي على أسس مستدامة.
وعند مقارنة التجربة السورية المرتقبة بنماذج التنمية في دول الخليج، تتّضح الفوارق في الموارد والقدرات، إلا أنّ الأهداف الكبرى تظلّ متقاربة. فدول الخليج تمتلك أكثر من ثلث الثروات السيادية على مستوى العالم، ويُشكّل النفط فيها ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي، وقد استثمرت خلال العقدين الماضيين جزءاً كبيراً من فوائضها في مشاريع ضخمة للبنية التحتية والنقل والطاقة المتجددة، إلى جانب خطط تنويع اقتصادي قلّصت اعتمادها على الإيرادات النفطية المباشرة. في المقابل، شهد الاقتصاد السوري انكماشاً حاداً منذ عام 2011، إذ تراجع الناتج المحلي من نحو 67 مليار دولار إلى ما يقارب 20 ملياراً فقط، أي بانخفاض يقارب 80 في المئة. كما هبط إنتاج النفط السوري من أكثر من نصف مليون برميل يومياً إلى أقل من مئة ألف، ما أفقد البلاد أحد أهم مصادر الدخل القومي. ومع ذلك، تمتلك سوريا عوامل يمكن أن تمنحها فرصاً للنهوض إذا ما اُسْتُثْمِرَت بفعالية، أبرزها موقعها الجغرافي الحيوي ومواردها البشرية الكفوءة، إلى جانب عودتها إلى الحاضنة الاقتصادية العربية. إن تحويل هذا الانفتاح السياسي إلى شراكة اقتصادية متينة مع المملكة يمكن أن يشكل ركيزة أساسية لإعادة بناء الاقتصاد السوري على أسس أكثر توازنًا واستدامة.
غير أن الطريق أمام سوريا لتحقيق نهضة اقتصادية مشابهة لما حققته دول الخليج لا يخلو من تحديات معقدة. فالعقوبات الدولية ما زالت تشكل عائقاً رئيسياً أمام حركة التمويل والاستثمار الخارجي، الأمر الذي يقيّد قدرة الحكومة السورية الانتقالية على استقطاب رؤوس الأموال اللازمة لإعادة الإعمار. كما تتطلب عملية التعافي إصلاحات هيكلية عميقة تشمل إعادة تنظيم مؤسسات الدولة، وترشيد الإنفاق العام، وتخفيف الدعم الحكومي تدريجياً مع الحفاظ على التوازن الاجتماعي، وهي خطوات دقيقة قد تثير حساسيات داخلية إن لم تُرفق بسياسات حماية اجتماعية فعالة.
وفي هذا الإطار، شرعت الحكومة في الإعلان عن نواياها لإعادة هيكلة بعض القطاعات الاقتصادية وفتح المجال أمام القطاع الخاص المحلي والدولي، بهدف تنشيط الدورة الإنتاجية واستعادة الثقة بالاقتصاد الوطني. غير أن هذه المساعي تصطدم بعدة عقبات، أبرزها غياب الاستقرار الأمني الكامل وضعف الإطار القانوني لمكافحة الفساد وضمان الشفافية، وهي عناصر أساسية لأي بيئة استثمارية جاذبة. كما أن هشاشة البنية المصرفية السورية وتحديات تحويل الأموال عبر القنوات الرسمية ما تزال تحدّ من إمكانية إقامة شراكات واسعة النطاق. مع ذلك، تبقى زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى المملكة العربية السعودية خطوة نوعية في مسار إعادة توجيه السياسة الاقتصادية السورية نحو الانفتاح العربي، إذ وفّرت منصة استراتيجية لإطلاق حوار اقتصادي متكامل بين دمشق والرياض، خصوصاً في ظل التقاء رؤية السعودية 2030 الطموحة مع حاجة سوريا الملحّة لإعادة الإعمار والتنمية. وقد تمثل هذه الزيارة نقطة انطلاق نحو تعاون اقتصادي أوسع يمكن أن يتيح لسوريا الاستفادة من الخبرات الخليجية في مجالات الطاقة المتجددة، والبنية التحتية، والإدارة الحديثة، شرط أن تتمكن من تجاوز التحديات السياسية والاقتصادية الداخلية التي تعيق مسارها التنموي.
في المحصلة، تبدو أهمية الزيارة في قدرتها على إعادة بناء الجسور السياسية والاقتصادية بين سوريا ومحيطها العربي، وفي إرساء نموذج جديد من التعاون القائم على المصالح المتبادلة لا على الدعم التقليدي. وإذا ما نجحت دمشق في ترجمة هذا الزخم السياسي إلى خطط تنفيذية واقعية، فإنها قد تضع الأسس الأولى لنهضة اقتصادية تدريجية قادرة على إعادة سوريا إلى موقعها الطبيعي كفاعل إقليمي متوازن في الشرق الأوسط.




