تجارب
السينما لها أثر عميق في الوجدان الشعبي المصري، فالمصري يعيش في أجواء السينما، ويُعبِّر عن مشاعره وأفكاره مقتبسًا مشاهد ونكات من الأفلام. في عهد الرئيس جمال عبد الناصر استعمَلَتِ الدولة السينما، خصوصًا أنّ عبد الناصر كان مشاهدًا مثاليًّا، يشاهد الأفلام في بيته.
كان عبد الناصر يملك كاميرا متحركة يصوِّر بها عائلته. وتذكُر مذكرات زوجته تحية عبد الناصر “ذكريات معه” حُبَّه للسينما وذهابه إليها كثيرًا، فقد كانت فسحة مميّزة بالنسبة إليه مع عائلته قبل الثورة، بل إنّه أرسل زوجته مع أولاده لمشاهدة فيلم ميكي ماوس قبل ثورة يوليو بأسبوع. هل كانت السينما استراحة مِن تدفُّق الأفكار واللقاءات السرية، تسمح لعقله بالتوقف عن المؤامرات؟
بعد الثورة أصبح في منزل عبد الناصر غرفة لمشاهدة الأفلام. في أثناء مشاهدة الفيلم كانت تُرسَل إلى عبد الناصر مذكرات وأوراق وبرقيات، ويستعمل الرئيس الولاعة في قراءتها ويكتب الرد في دقائق، ثمّ يستمر في مشاهدة الفيلم، وأحيانًا يقوم بعد قراءة الأوراق ويذهب إلى مكتبه، كما تقول زوجته، ويقول لها قبل مغادرته حجرة السينما: “فليستمر عرض الفيلم”، ولكنّها كانت تطلب أن يتوقف حتى يعود الرئيس. ويغيب قليلًا ثمّ يرجع. وأحيانًا تكون الملاحظة مهمة فيقول لها: “فلتُكْمِلي أنتِ الفيلم وسأذهب إلى المكتب”، فكانت تستمرّ في المشاهدة. وفي آخر سنتين من حياته كان يحضر السينما ومعه بطارية صغيرة يستعملها للإضاءة بدلًا من الولاعة بسبب توقفه عن التدخين، حتى يقرأ الأوراق التي تَرِد إليه في أثناء المشاهدة.
بين المَلَكِيَّة والجمهوريَّة وفيلم “الله معنا”.
أدرك عبد الناصر أهمية الراديو، فقد أوصل صوت مصر إلى الشعوب العربية عبر إذاعة “صوت العرب”، وعرف عبد الناصر أثر السينما للوصول إلى الشعب. تغيَّرت الرقابة بعد ثورة يوليو، فقبل الثورة مُنع فيلم مصطفى كامل الذي يحكي قصة الزعيم الوطني، ولم يُعرَض إلا بعد قيام ثورة يوليو، في 14 نوفمبر من العام نفسه، وسُمح بعرض فيلم “الفرسان الثلاثة” الذي مُنع من العرض في العهد الملكي بسبب عبارات تنتقص من الملكية، وغضبت السراي الملكية من عرض فيلم عن ماري أنطوانيت والثورة الفرنسية. وتشير الرقيبة اعتدال ممتاز في سيرتها بعنوان “مذكرات رقيبة سينمائية” إلى غضب السراي الملكية من عرض فيلم عن الثورة الفرنسية، وسألت السراي هيئة الرقابة: من سمح بعرض الفيلم؟ إنّه رقيب يستحق الشنق.
من أوائل الأفلام التي وُقفت بعد الثورة فيلم “الله معنا” الذي يحكي عن حرب فلسطين عام 48، وبالبحث عن سبب المنع وُجد أنّ هناك تقريرًا رُفع إلى مجلس قيادة الثورة بأنّ الفيلم يمجِّد محمد نجيب ويُظهِره بأنّه القائد الحقيقي للثورة. هكذا أصبح فيلم “الله معنا”، الذي يمجّد الثورة، يمجّد محمد نجيب، وكان بين نجيب وعبد الناصر صراع على السلطة، فكان من البديهي أن تتدخل القيادة الجديدة لمنعه. وبعد استقرار الأمور لجمال عبد الناصر وتشكيل وزارته الثانية في 17 أبريل عام 1954 عادت قضية “الله معنا” إلى الظهور والبحث عن وسيلة لإخراجه إلى النور، وكان الحل الذي توصلوا إليه هو إجراء عملية تعديل على الفيلم لتتلاءم مع المتغيرات الجديدة، فقامت إدارة بنك مصر وكلّ المسؤولين في أجهزة شركة مصر للتمثيل والسينما بإقناع المخرج بدرخان بضرورة إجراء تلك التعديلات، فكانت مطالب القيادة العليا مُنصَبّة على شخصية الممثل زكي طليمات الذي يمثّل دور محمد نجيب، فلم يكُن هناك مفرّ سوى حذف كلّ المشاهد التي لعبها زكي طليمات من الفيلم، بل وحُذف اسم زكي طليمات من التترات.
رغم إجراء تلك التعديلات فإنّ الفيلم ظلّ حبيس العُلَب لعام 1955، وظلّ الحديث عن الفيلم يُتبادل حتى وصل إلى أسماع مجلس قيادة الثورة، وعَلِم جمال عبد الناصر الذي بدوره كَلَّف أنور السادات مشاهدة الفيلم، وتقديم تقرير عنه. وشاهده السادات ورفع تقريره إلى جمال عبد الناصر، الذي طلب مشاهدته بنفسه، ليتبيَّن مدى كذب الشائعات التي تردَّدت حوله لتمنعه. وعلى الفور أمر بعرضه ليُعرض في 14 مارس عام 1955 بسينما ريفولي، وحضر عبد الناصر حفل الافتتاح.
“رُدّ قلبي”
ركّزت السينما في عهد ثورة يوليو على أفلام تنقد العهد الملكي وتمجّد الثورة مثل فيلم “رُدّ قلبي” من إنتاج عام 1957، خصوصًا أنّ مُخرِج الفيلم والبطل أحمد مظهر من زملاء عبد الناصر في الكلية الحربية. المفارقة أنّ الرواية الأصلية “رُدّ قلبي” فيها حديث عن دور محمد نجيب في ثورة يوليو، لكن مع الفيلم اختفى دور نجيب، فكأنّ هناك تدشينًا بأنّ عبد الناصر ورفاقه هُم وحدهم مَن قاموا بالثورة.
رسّخَت السينما شخصية الزعيم الأوحد، فلم تظهر مشاهد لمجلس قيادة الثورة، وكانت أول أغنية خلال فيلم سينمائي تتغنى باسم جمال هي أغنية “أَمِّمْ جمال القنال” في فيلم “بور سعيد” (1957). وفى أحد مشاهده أيضًا يردد أحد الخواجات الذين يعيشون في مدينة بور سعيد: “عبد الناصر لازم يموت”، كأنّ العدوان الثلاثي هو ضد عبد الناصر. وكان ناصر هو مَن كَلّف فريد شوقي إنتاج هذا الفيلم لرصد المقاومة الشعبية هناك، وعُرض الفيلم بعد جلاء العدوان الثلاثي على مصر في 23 ديسمبر 1956 بأقل من 7 أشهر.
أفلام الستينيات.
في أفلام الستينيات نلاحظ غياب المعتقلات المشهورة في العهد الناصري، لكن سنرى أفلامًا تحكي عن البوليس السياسي وبطشه في عهد الملكية مثل فيلم “في بيتنا رَجُل”. لكن بمجرد رحيل عبد الناصر نُشرت رواية “الكرنك” وأُنتجت فيلمًا عام 75 في عهد السادات، وهي تُعتبر وثيقة إدانة للمعتقلات والسجون، لذلك غضب هيكل من نجيب محفوظ لكتابة هذه الرواية.
عُرض فيلم “الناصر صلاح الدين” عام 1963، ولا يمكن أن نمنع أنفسنا من رؤية التشابه بين صلاح الدين في الفيلم وجمال عبد الناصر في الواقع، خصوصًا أنّ الجيش المصري أسهم في التعاون في إنتاج الفيلم. ونرى في الفيلم حديثًا عن فكرة العروبة والوحدة العربية واسترجاع الأرض السليبة، والتآخي بين المسلمين والمسيحيين، كأنّها إسقاط من الماضي على الحاضر.
أمّا فيلم “ثورة اليمن” فقد جاء بتكليفٍ رسمي من الدولة ليحكي قصة عن تخلُّف اليمن تحت حكم الإمام ليؤيد موقف مصر المتضامن مع الثورة اليمنية. الفيلم أنتجه القطاع العام، وهكذا استُخدم الفيلم ليبرر التدخل المصري في اليمن. وقد زار الرئيس جمال عبد الناصر اليمن، فاقترب رجل يمني منه خلال زيارته لمدينة تعز، وأمر الرئيس بإفساح المجال للرجل اليمني حتى يسمع منه. اقترب الرجل وسأل الرئيس عبد الناصر: هل تعرف إسماعيل ياسين؟ فقال عبد الناصر: نعم! فردّ اليمني بعفوية: أطلب منك إذَن أن تُبلِغه سلامي. وهذا يدل على شعبية السينما المصرية خارج مصر.
جناب السفير
لم تنجُ الأفلام الكوميدية من مقص الرقيب، ففي عام 1966 رفضت الرقابة سيناريو فيلم “جناب السفير”، فقد روى السيناريست عبد الحي أديب وقائع ما حدث لفيلم “جناب السفير” قائلًا: “في عام 1968 كُتب سيناريو فيلم {جناب السفير}، وهو من إنتاج محمد عبد الوهاب، لكن الرقابة رفضت الفيلم بعد تصويره، واستطاع محمد عبد الوهاب بذكائه الفطري أن يطلب مقابلة الزعيم عبد الناصر، وحكى له قصة اعتراض الرقابة على الفيلم، فطلب عبد الناصر مشاهدة الفيلم في منزله، من خلال دار العرض الخاصة التي كان يحتفظ بها دائمًا في المنزل، ووصل إعجاب عبد الناصر بالفيلم إلى درجة الدبدبة من كثرة الضحك في بعض المشاهد، خصوصًا مشهد بودستان الغربية والشرقية وعرض المعونات عليهما من قِبل الروس والفرنسيين للتصويت معهما في الأمم المتحدة. وأصدر عبد الناصر قراره بالموافقة على الفيلم به ووصفه بأنه {فيلم دمه خفيف}”.
“شيء من الخوف”
أمّا بعد هزيمة 5 يونيو عام 1967 فقد ظهر بعض الأفلام النقدية مثل فيلم “شيء من الخوف”، وترددت الرقابة في عرض الفيلم، الذي كان يحكي قصة عصابة تستولي على إحدى القرى وتتحكم في أهلها، فيقود رجل متديِّن الثورة على هذه العصابة، ويتمكن الأهالي من إحراق رئيس العصابة. قررت الرقابة عرض الفيلم على الرئيس جمال عبد الناصر، وبعد العرض سأل الرئيسُ المسؤولَ الكبيرَ الذي عُرض عليه الفيلم: هل نحن عصابة؟ فقال المسؤول: لا. ثمّ سأل الرئيس: هل أنا عتريس رئيس العصابة؟ فقال المسؤول: لا. فردّ عبد الناصر: لو أنا عتريس يبقى أستاهل الحرق. وهنا قال الرئيس: إذًا فما المشكلة في عرض هذا الفيلم كاملًا على الجمهور؟
“ميرامار”
أمّا فيلم “ميرامار” الذي أتت فيه عبارات تنقد الاتحاد الاشتراكي، فقد قال مُخرِجه كمال الشيخ في أحد حواراته إنّ عبد الناصر هو الذي وافق شخصيًّا على عرض الفيلم، فقد قدّمت الرقابة ملاحظات عديدة لمنع الفيلم، خصوصًا التي تأتي على نقد للاتحاد الاشتراكي، لذلك قررت الرقيبة اعتدال ممتاز إرسال رسالة شخصية إلى رئيس الجمهورية، وشرحت فيها الظروف والملابسات التي أحاطت بالفيلم، واتصلت رئاسة الجمهورية بالرقيبة لِتُعْلِمها أنّ رئيس مجلس الشعب (أنور السادات) سيحضر لمراقبة الفيلم بنفسه بعد أن شاهده جمال عبد الناصر في منزله وطلب من السادات مشاهدته مع المسؤولين والمواقفة عليه دون أيّ ملاحظات أو حذف، وفي ذلك اليوم قال جمال عبد الناصر: “النظام الذي يقع من فيلم أو مسرحية نظام خرب ومخوَّخ.. اتركوا الكُتّاب والفنانين يعرضوا أعمالهم بِحُرّية”.
مِن الطريف أنّ السادات بعد حضوره عرض الفيلم أبدى ملاحظة واحدة، فوضعت الرقيبة يدها على قلبها، فقال لها: هل يصح أن يَرِدَ في الفيلم عبارة “الستات حيوانات”، ونحن معنا نساء يشاركن في الحكم على الفيلم وفي بناء البلد؟ أرجو حذفها من الفيلم. وتنفست الرقيبة الصعداء وشكرت السادات نيابة عن نساء مصر، وتجاهل السادات الهجوم على الاتحاد الاشتراكي في الفيلم.
وبسبب كاريزما عبد الناصر والقمع لم تظهر أفلام تتناول عهد الثورة بالنقد في عهده. أحيانًا السينما كانت تغيب عن الحاضر، فلم تجرؤ أيّ من الأفلام بعد هزيمة 67 بالحديث عنها أو عن حرب الاستنزاف أو عن مظاهرات الطلبة وظاهرة هجرة المصريين إلى الخارج، وبقيت أحداث مصر الجسام بعيدة عن الشاشة. وهذا يُظهِر أنّ السينما كانت أداة استطاعت الدولة في مصر ضبطها واستخدامها لصالحها.
قصة الرقابة على السينما في عهد عبد الناصر تحتاج إلى جمع مِن بطون كُتب المُخرِجين والممثّلين، لأنّ هناك رقباء كانوا ملكيين أكثر من الملك، منعوا أفلامًا قبل أن يصل صداها إلى عبد الناصر نفسه، وغيروا في سيناريو كثير من القصص والتشبيهات خوفًا من ظلّ الرئيس. مثلًا، غُيِّر اسم خال البطلة في فيلم “دعاء الكروان” من “ناصر” كما في الرواية إلى “جابر”، بُعدًا عن شبهة الإسقاط على الرئيس لأنّ شخصية الخال في الفيلم شريرة. وكذلك ألغوا بعض ملامح شيوعية بعض الأبطال بسبب خلاف عبد الناصر مع الشيوعيين، وحدث ذلك في فيلم “الرجل الذي فقدَ ظله”. هذه جولة عن السينما في سنوات الناصرية


