مشاركات سوريا

ما بين مدينتين.. يد أنهكها التلويح

أكتوبر 30, 2025

ما بين مدينتين.. يد أنهكها التلويح

الكاتبة: لجين مراد

 

ودّعت إسطنبول، ودّعت الأماكن والأشخاص منزلي الأول، ومنزل عائلتي، وذكريات وتجارب لم تتّسع لها الحقائب والكراتين، لم يكن الوداع فعلاً اعتيادياً وروتينياً كما حاولت أن يكون، بل كان فعلاً شاقاً، والكتابة عنه ثقيلة أيضاً.

 

منذ غادرت دمشق لأول مرة عام 2010، تحوّلت حياتي إلى سلسلةٍ من الوداعات المتكررة، حالي حال معظم السوريين، وفي معظم الأحيان لم نملك رفاهية البكاء بعدها، كنّا مجبرين على أن نبدو معتادين على التخلي، ومتصالحين مع احتمالية أن نعيش اللحظات كلّها لآخر مرة، لكنّ ذلك لم يخفف وطأة خسارة أكثر من 8 سنوات من الركض بحثاً عن الاستقرار، ومحاولة خلق مساحتي الآمنة في أرض اللجوء.

 

خلال العقد الأخير، لم يعد الانتقال من مدينة إلى أخرى حدثاً استثنائياً في حياتنا. الآلاف منّا تغيّرت خرائط حياتهم مراراً، وتنقلوا حاملين معهم ذاكرة مثقلة بالوداعات المؤجلة.

 

يدرك السوريون أنّ الاستقرار في حياة اللجوء ليس سوى هدنة قصيرة مع المجهول، وأنّ كلّ ما نبنيه هنا قد يُسحب من تحت أقدامنا في لحظة، بقرارٍ سياسي أو ظرفٍ اقتصادي، ويعرفون اليوم جيداً ما يمكن أن تأخذه أرض اللجوء منهم ثمناً للاستقرار: سنوات من العمل المضني، حياة يومية تُبنى على الحذر، وخوف دائم من فقدان كلّ شيء من جديد، لكنّ ذلك لم يغيّر حقيقة أنّ العودة ظلّت خارج حساباتهم لسنوات.

 

 

سرقوا المرة الأولى.

لم تكن إسطنبول حنونة دائماً، كلّ شيءٍ في تلك المدينة يتحرك بسرعةٍ مرعبة، الجميع كانوا يركضون، وأنا كنت مضطرة على الركض أيضاً، مررت بتجارب عديدة، تبدّلت الوجوه  والوجهة في حياتي مراراً، لكن التجارب في تلك المدينة، بحلوها ومرّها شكّلت الجزء الأكبر مني ومن ذاكرتي.

 

قبل بضعة أشهر كنت قد كتبت نصاً عن مراتنا الأولى المسروقة بفعل الحرب واللجوء والتهجير وغياب كل ملامح الاستقرار، كنت أفكر بتفاصيل بيتنا في دمشق، تفاصيلنا التي خبأتها أمي في سقيفة المنزل ولأسباب لا يمكن فهمها سُرقت أيضاً إلى جانب عشرات الأشياء الثمينة الأخرى، لم أتخيل حينها أن أعيش مشاعر ذلك النصّ مجدداً مع إسطنبول.

 

عشت في هذه المدينة كمّاً هائلاً من المرات الأولى، هنا خطوت أول خطوة في مسيرتي المهنية، كونت أول صداقة حقيقة، وحصلت على أول باقة ورد، حضرت أول حفل موسيقي،  وهنا مرات أولى أحفظها في قلبي لكنّني ولسوء الحظ، لا أستطيع حملها معي.

 

خلال سنواتي في إسطنبول لم أملّ من زيارة الأماكن التي عشت فيها اللحظات لأول مرة، زرتها أحياناً بحثاً عن شعور اشتقته، وأحياناً لأضع نهاية لقصة ما، وفي مرات أخرى زرتها خوفاً من فقدان الذكرى، وحين خططت لرحلتي الأخيرة لنقل أغراضي، دوّنت كلّ تلك الشوارع والمقاهي ومحطات المترو لكن الوقت لم يكن كافياً لزيارتها.

 

سُرقت منّي مرّاتي الأولى مجدداً، ولم أكن وحدي هذه المرّة أيضاً، بل كان فقداً جماعياً تقاسمته مع مئات السوريين الذين جاهدوا لصناعة استقرار في إسطنبول، لكنّه ظلّ استقراراً هشاً اضطروا للتخلي عنه متحمّلين عبء فقد مشاعر وذكريات شكّلت حياتهم.

 

 

يدٌ أنهكها التلويح.

خلال سنواتي الثماني في إسطنبول كوّنت علاقات كثيرة وبمعظم الحالات عدت إلى دوامة الوحدة بعد اتخاذ الآخرين قرارات السفر بحثاً عن بلاد تمنحهم حياة بعيداً عن تعقيدات حياة اللاجئين السوريين في تركيا.

 

تحفظ يدي المنهكة من التلويح عدد الوداعات، وأحفظ المرات التي قلت فيها وداعاً أعرف أنّ احتمالية الحصول على فرصة اللقاء مجدداً ضئيلة جداً في ظلّ آلاف القيود المفروضة على سفرنا.

 

قبل شهرين من سقوط الأسد أخبرتني صديقتي عن نيّتها السفر إلى ألمانيا لمتابعة دراستها، انسحبت من الجلسة سريعاً وكلّ ما أفكر به أنّ يدي لن تطيق وداعاً جديداً، لم أتخيّل حينها أنّني وبعد أسابيع قليلة سأودع كلّ الوجوه التي ألفتها وكلّ الأماكن التي تحفظني وأحفظها.

 

كانت التلويحات هذه المرّة متلاحقة، ومع كلّ وداع، كانت مشاعر الغربة والوحدة تعود بثقلها القديم، ذلك الثقل الذي عرفته جيداً قبل أن أجد مجتمعي الصغير في إسطنبول، مجتمع يشبهني، وأشبهه، حاولت جاهدة الحفاظ عليه قبل أن أجد نفسي مجبرة على وداعه أيضاً.

 

 

 

إلى دمشق.

لا أنكر أن نوبات الحنين إلى دمشق، وحلم العودة إليها، كانت حاضرة في معظم أيامي، لكنّها لم تتجاوز حدود الحلم الذي أُسلي به نفسي، رغم يقيني باستحالة تحقّقه.

 

غادرتُ دمشق طفلة في العاشرة، أحمل في ذاكرتي بضع شوارع ووجوه قليلة تمسّكت بها طويلاً، لكنّها اليوم بلا قيمة؛ كلّ شيء تغيّر، ولا شيء يشبه ما اختزنته ذاكرتي.

 

ومن زيارة كان يُفترض أن تمتد شهراً واحداً ثمّ طالت لأربعة أشهر، وجدت نفسي فجأة أمام حتمية العودة. لم تكن خياراً خططت له، ولا أعرف إن كانت رغبةً حقيقية أم أنّها الطريق الوحيد الذي ظلّ مفتوحاً. لكن ما أدركته سريعاً أنّني هنا أيضاً غريبة، عن بلدٍ تطفو المأساة على وجهه، وتظهر آثار الظلم والقهر في كلّ تفاصيل الحياة اليومية.

 

البُعد بيني وبين دمشق لم يكن زمناً ومسافة فقط، بل فجوة صنعتها الحرب التي جمّدت حياتها لسنوات، بينما كنت أكبر وأتشكّل في بلاد أخرى. فجوة أعيش داخلها صراعاً حقيقياً بين مسؤولية تجاه بلاد منهكة، وبين جذورٍ تشدّني إلى أرضٍ كبرت فيها.

هذا الفراغ بيني وبينها يحتاج زمناً جديداً، وذاكرة تُبنى من الصفر، ونوعاً من المصالحة مع التغيّر الذي أصاب كلينا.

 

أعود اليوم، تاركة جزءاً منّي في مدينةٍ أخرى لن تغادرني، وأحمل أملاً كبيراً بأن تحتضنني دمشق هذه المرة، وتتّسع لحلمي وحلم كلّ سوري عاد مختاراً أو مضطراً، بأن تكون مكاناً آمناً أعيش فيه، بلا خوفٍ دائم من الفقد.

شارك

مقالات ذات صلة