سياسة

انتفاضات جيل Z في إفريقيا: حين تمسي الثورات شبكات بلا قائد

أكتوبر 29, 2025

انتفاضات جيل Z في إفريقيا: حين تمسي الثورات شبكات بلا قائد

يشهد المشهد الإفريقي ولادة فاعل اجتماعي جديد لا يشبه من سبقوه من أجيال النضال أو النخب. جيل Z، جيل الهواتف والهاشتاغات، يعلن سقوط فكرة «الزعيم المخلّص»، ويعيد هندسة العلاقة بين الدولة والمواطن من خلال فضاءات رقمية عابرة للحدود. إنّنا لا نتحدث هنا عن ثورات تقليدية، بل سياسة جديدة تولد من رحم – ليس الأحزاب- لكن من رحم الشبكات والفضاء السيبراني.

في القارة التي ورثت جمهوريات منزوعة السيادة ومثقوبة الشرعية، يقف اليوم جيلٌ لا يخاف الدولة ولا يؤمن بوعودها القديمة. جيلٌ لا يرفع صور القادة، ولا ينتظر انقلابًا أو انتخابات كي يغيّر واقعه. إنّه جيل Z، الذي وُلد في زمن الإنترنت، وتربّى على شاشاته، ثم قرّر أن يستخدمها اليوم كسلاحٍ في معركةٍ هادئة ضد أنظمةٍ هرِمة لا تفهم اللغة الرقمية ولا الوعي الشبكي.

من كينيا إلى جمهورية توغو، ومن المغرب إلى مدغشقر، تتكرّر الملامح ذاتها: شباب لا تجمعهم الأيديولوجيا، لكن الاتصال. ولا يقودهم حزب أو زعيم، إنما فكرة. لا يتحدثون ببياناتٍ مطبوعة، بل بتغريدات وتسجيلات قصيرة تصل إلى الملايين. هذا التحوّل لا يعني فقط تغيير أدوات التعبير، إنّما تغيير جوهر الفعل السياسي نفسه؛ حيث تتهاوى فكرة القيادة الفردية أمام صعود التنظيم الجماعي الشبكي.

الوعي الشبكي في مواجهة الدولة القديمة

حين أقرّت الحكومة الكينية قانونًا ماليًا قاسيًا عام 2024، لم تتوقّع أنّ وسمًا رقميًّا عابرًا على تويتر (#RejectFinanceBill) سيقودها إلى أخطر أزمة داخلية في عهد الرئيس وليام روتو. بدأ الاحتجاج كحملةٍ شبابية ضد الضرائب، ثمّ تحوّل إلى ثورةٍ مدنية فرضت على الدولة التراجع. لم تكن هناك قيادة مركزية ولا حزب معارض، إنّما آلاف الحسابات التي تتواصل وتتفاعل بلا رأس ولا تسلسل. كانت هذه أول إشارة إلى أنّ السلطة لم تعد مركزية في إفريقيا، بل موزّعة عبر الفضاء الرقمي.

تكرّر الحدث ذاته لاحقًا في أوغندا، لكن في بيئةٍ أكثر قمعًا. ورغم إرث موسيفيني الحديدي الممتد منذ أربعة عقود، استطاع الشباب تنظيم مظاهرة أمام البرلمان في يوليو 2025، مستخدمين أسماء رمزية وتطبيقات مشفّرة لتفادي الاعتقال. وحين أُغلق الإنترنت، لجؤوا إلى أدواتٍ بديلة للبث عبر الشبكات الافتراضية. أثبتت التجربة أنّ الحركات اللاقيادية لا تُهزم بسهولة، لأنّ الدولة تستطيع سجن الأفراد، لكنّها تعجز عن سجن الشبكات.

في ملاوي، خرجت الحركة الشبابية من رحم الأزمة الاقتصادية، حين ارتفعت الأسعار وانهارت الخدمات. كان شعارهم بسيطًا: “الإغلاق الوطني”، لكن سلوكهم كان راقيًا؛ فقد أجّلوا المظاهرات احترامًا لمواعيد امتحانات الطلاب، في مشهدٍ يُجسّد أخلاقية جديدة في الفعل السياسي، قوامها الوعي والمسؤولية بدل الغضب الأعمى.

أما في مدغشقر، فقد تحوّلت الاحتجاجات على انقطاع الكهرباء إلى زلزالٍ سياسي أسقط الحكومة ودفع الجيش إلى التدخل، لتتجسّد المفارقة الكبرى: الجيل الذي أراد تفكيك السلطة الهرمية وجد نفسه في مواجهة عودة العسكر من بوابة الفوضى. ورغم ذلك، بقي الدرس قائمًا. لم يعد الاستقرار يُشترى بالصمت، ولا الأمن يُبرّر الاستبداد.

إفريقيا الجديدة: من الطاعة إلى المشاركة.

في توغو، التي عاشت نحو ستين عامًا تحت حكم عائلة غناسينغبي، أطلق شاب مجهول دعوة عبر تيك توك للتظاهر يوم 6 يونيو 2025، فاشتعلت البلاد. اعتُقل المنظّم، لكن بقي الموعد علامة في الذاكرة السياسية، وأُطلق على الحركة اسم M66. لم تكن الاحتجاجات واسعة فقط، بل رمزية: لحظة كسرت صمت جيلٍ تربّى على الخضوع، وأدرك أنّ «الوراثة السياسية» لم تعد قدرًا. وكلّ المؤشرات تقول إنّ شرارة الانتفاضة لم تُطفأ بعد في جمهورية وقد يكون مصير الرئيس ” فور غناسينغبي” الذي ورث الحكم من والده مصير رئيس مدغشقر.

وفي المغرب، خرجت حركة «GenZ212» من رحم غضب اجتماعي على انهيار الخدمات الصحية، مطالبة بـ«مستشفيات لا ملاعب» مما دفعت المملكة المغربية لتخصيص 15 مليار دولار لتلبية الاحتجاجات على نحوٍ عاجل. أمّا في نيجيريا وغانا، فقد استعاد الشباب تجربة «EndSARS» و«FixTheCountry»، لكن بروحٍ أكثر وعيًا وتنظيمًا. باتت هذه الحركات تتبادل الخبرات والوسوم، وتحوّلت إلى شبكة إفريقية غير رسمية من النشطاء الرقميين، تخلق تضامنًا يتجاوز الحدود الاستعمارية القديمة.

يؤكد هذا الواقع أنّ الاحتجاج الإفريقي دخل مرحلة ما بعد الدولة، حيث تتراجع الحدود لصالح فضاء مشترك يصنعه المواطنون من أسفل، لا الحكومات من أعلى. الجيل الجديد لا يعترف بالخرائط السياسية التي رسمها المستعمر، بل بخريطةٍ رقمية يتّصل فيها الكيني بالتوغولي، والمغربي بالنيجيري، ضمن فضاء قاري واحد يتداول الصور والرموز والمطالب.

لكن في المقابل، لا تخلو هذه الحركات من تناقضات بنيوية. فغياب القيادة يمنحها مرونة أمام القمع، لكنّه يحرمها من التمثيل عند لحظة التفاوض. قدرتها على الهدم تفوق قدرتها على البناء، لأنّها بلا هيكل ولا استراتيجية طويلة الأمد، وهذا الذي يفسر لماذا في حالة انتصار مظاهرات الشباب في مدغشقر، بعد هروب الرئيس أندريه راجولينا إلى فرنسا، تدخل قائد الجيش الجنرال “مايكل راندريانيرينا” للاستحواذ على السلطة في ظاهرة وصفت بأسرع “استغلال سياسي” عبر ركوب الموجة نتيجة جهود الجيل “زد”. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أنّها تزرع بذور وعي سياسي جديد قد ينضج مع الزمن، حين تنتقل من فضاء التمرّد إلى فضاء الاقتراح.

 

الخاتمة: نهاية الزعامة التقليدية.

ربما كانت إفريقيا أكثر القارات وفرةً بالزعماء، لكنّها اليوم الأقلّ إيمانًا بفكرتهم. فالقائد الذي جسّد في السابق حلم الأمة صار رمزًا للجمود. في المقابل، يقدّم جيل Z نموذجًا مختلفًا: قوة جماعية بلا رأس، وقيادة فكرية بلا مركز. لقد أسقط هذا الجيل صورة «الأب الحاكم» الذي يقرّر باسم الجميع، واستبدلها بعقل جمعي لا يعترف بالوصاية.

وفي تقديري يمثل ذلك ديباجة تحوّل في بنية الوعي السياسي. فبينما يتهاوى نموذج الدولة الهرمية، تتشكّل «الديمقراطية الشبكية الإفريقية»؛ ديمقراطية لا تُدار من المكاتب المغلقة، لكن في الفضاء المفتوح حيث تصير الكلمة فعلًا، والهاشتاغات تتحوّل إلى حركة.

قد تُخيف هذه الموجة الأنظمة التقليدية، لكنّها تمثّل المستقبل الحتمي لقارةٍ تبحث عن ذاتها بعد قرنٍ من التبعية. فجيل Z باختصار يعيد كتابة العقد الاجتماعي برمّته بين الحاكم والمحكوم.

إنّها اللحظة التي تسقط فيها الزعامة لتولد السياسة من جديد، وهذه المرّة في الشوارع الرقمية، حيث يتعلّم الجيل الإفريقي الصاعد للمرة الأولى أن القيادة وعيًا مشتركًا وليست في شخصية الزعيم أو رئيس الجمهورية.

 

شارك

مقالات ذات صلة