آراء
في فجرٍ رمادي يفحُّ عطنا بخيانة تلفظ أنفاسا تُحسب عليها وتحصى قبل لحظة باترة كالقضاء.. على أرض مترعة بالدماء الزكية.. على أطراف حيّ الصبرة، كان الهواء محمّلًا ثقيلًا يكاد يُتلقّفُ بقبض اليد، والبطولات القريبة تستبسل في صمتٍ كالجبال من المسافة صفر.. قرب مستشفى الشفاء، صفّت عناصر من كتائب القسام ثلاثة شخوص بملابس مدنية إلى جدار إسمنتي. لم تُتْلَ تهمة، ولم تُرفع راية. خلال دقيقة واحدة انتهى كل شيء..
في هذا التحقيق أتقصى عن الشخوص المنفذ فيهم أحكام الإعدام وأبحث في هذا الظرف لتأصيله والتأسيس عليه للوقوف على خطة إسرائيل استقطاب وتجنيد طابورًا خامسًا تحيق به نخر صف المقاومة من الداخل في غزّة بغية استنزافه وتصفيته من داخله.
الظرف والملابسات.
اليوم كان الحادي والعشرين من سبتمبر ٢٠٢٥ بحسب وكالة رويترز حين أُبلغ عن تنفيذ الإعدام علنًا يوم الأحد في تقرير لها بتاريخ ٢٢ سبتمبر من العام الجاري. الوقت التقريبي: الفيديو المتداول يظهر التنفيذ خلال النهار (أمام جمهور)، ولم تذكر التقارير الدولية توقيتًا دقيقًا بالساعة؛ رويترز أكدت الموقع الجغرافي عبر مطابقته بصور الأقمار الصناعية لكن لم تذكر ساعة تنفيذ محدّدة. الظروف وطريقة التنفيذ تُظهر في مقاطع فيديو متداولة تُظهر ثلاثة رجال معصوبي الأعيُن راكعين أمام جدار؛ قام رجل ملثم بتحذير المتخابرين، ثمّ دفعهم على جباههم وأطلق النار عليهم أمام حشد. رويترز راجعت الفيديو وتأكدت من أنّ المشهد وقع في مدينة غزّة. السلطات الأمنية التي تقودها حماس قالت إنّ الإعدامات نُفِّذت «أحكامًا ثورية» بحقّ متهمين بالتخابر مع إسرائيل. ثمّ نقل ذات التقرير أنّ المسؤول الأمني في حكومة غزّة قال إنّ العملية نُفّذت من قبل «الغرفة المشتركة للمقاومة الفلسطينية» (التبرير: التعاون الأمني مع الاحتلال). رويترز ربطت الحادثة بظهور جماعات مسلحة معارضة داخل مناطق سيطرة إسرائيل أو قربها (مثل مجموعات مرتبطة بياسر أبو شباب) وبتصريحات نتنياهو في يونيو 2025 عن تسليح عشائر بغزة. الأسماء غير متاحة في تقارير رويترز والمصادر الدولية الرئيسية التي اطلعت عليها.
حكم «ثوري» ضد عملاء.
هكذا قدّم المتحدث المسؤول الأمني في ”حكومة غزة“ ويعني حركة حماس وفقا لنتائج آخر انتخابات أجريت في القطاع في مارس ٢٠٠٦. التحليل البصري لمقاطع الإعدام التي وثّقها ناشطون على تليغرام أظهر أنّ المشهد صُوّر قبل الفجر، وأنّ الموقع لا يبعد سوى مئتي متر عن نقطة كانت تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي قبل أسبوع فقط. هناك، في تلك البقعة التي تغيّر ولاؤها أكثر من مرة خلال أشهر، ظهرت أولى ملامح ما أصبح لاحقًا شبكة ميليشيات محلية تعمل بإشرافٍ مباشر أو غير مباشر من الاحتلال. تسلل الغَزيّون خلال دقائق من مكامنهم .. توقف الزمن وكأنما عاد لسنواتٍ إلى الوراء.. لم يعرفوا إن كانوا يشيّعون “عملاء” أم يدفنون ضحايا حربٍ قذرة تدور كالترس الصديء عكس عقارب الساعة بين شقي رحى حرب فصائل المقاومة ضد الاحتلال الذي يقضم غزة ويبيد أهلها جماعة.. هذه ليست المرة الأولى..
تشبه الإعدامات التي افتَتِحُ بها هذا التحقيق، تلك التي نفذتها حماس في صيف ٢٠٠٧ ضد عناصر جهاز الأمن الوقائي التابع لمحمد دحلان، وللأمانة لا أرى اختلافا في جوهرها ووظيفتها بل لربما كان الهدف المرة ألزم وأشد ضغطًا على حركة التحرّر الوطني المسلحة في عقل حماس المقاومة التي للتو يراد لها البتر ويحيك لها الشر وتنقض عليها أيادي الاجتثاث وتواطؤ نزع السلاح والتصفية.. حينها، في مجابهة دحلان صنيعة الإمارات وقبضتها رئيس الأمن الوقائي ٢٠٠٧، كان الهدف سياسيًا ورمزيًا؛ كسر نفوذ الأجهزة التي مثّلت الدولة القديمة الموالية لإسرائيل والولايات المتحدة في مرتكزات حماس الواعية، وإعلان ميلاد سلطة جديدة. الإعدامات جرت على الملأ كفعل تأديب جماعي ورسالة قوة، وكانت منظَّمة وهرمية، تصدر أحيانًا بقرارات ميدانية من قيادة القسام نفسها.
أما في مشهد الصبرة عام 2025، فالوظيفة رسالة مدوية للردع ضد عناصر استقطبتهم إسرائيل وتأبى بها إلا من زرع مسامير داخليّة تدب في غزة بها فوضي تقض مضجع المقاومين وتستنزفهم حتى تأتي الفرصة تُدقَُ في نعش المقاومة بعد دفنهم مرة واحدة وبلا أمجاد.
لكن ما حقيقة من هؤلاء؟
استقصيت بالتحدث إلى مصادر ميدانية شهود من الحي، لم يُصرَّح (شاهدا عيان) لي بأسمائهم لدواعٍ أمنية ــ أكّدا أنّ الإعدامات نُفذت فجر الأحد. كما نُقل عن مصدر أمني فلسطيني ــ طلب عدم ذكر اسمه ــ قال إنّ المجموعة كانت على اتصال مباشر بضابط إسرائيلي يُعرف باسم “أبو رامي”.
من التكليف إلى الإقرار الرسمي.
في يونيو ٢٠٢٥ أقرّ بنيامين نتنياهو بوضوح: “نعم، نسّلح العشائر المعادية لحماس. ما الخطأ في هذا؟” قالها في مقطع مصوَّر بثه على منصة X، مبرّرًا الخطوة بأنّها “تحمي حياة الجنود الإسرائيليين”. الاعتراف لم يكن تفصيلاً سياسيًا، بل تحوّلًا في طبيعة الحرب: من اجتياح مباشر إلى إدارة عسكرية بالوكالة. إسرائيل لم تعد تكتفي بالتحكم من الجو؛ بدأت تبني شبكة من المسلحين المحليين تحارب نيابةً عنها وتُحكم قبضتها على الأرض من الداخل.
أبو شباب.. العرّاب الذي أسّس المنظومة.
في شرق رفح، عند حدود المنطقة الأمنية، يقيم ياسر أبو شباب، قائد ما يُعرف بـ“القوات الشعبية”. عبر مراجعة تسجيلاته المصوّرة وتوقيتات البثّ، تبيّنت من أنّ أنشطته تقع في مناطق كانت تحت السيطرة الإسرائيلية حتى منتصف مايو من العام الجاري. مصادر ميدانية أكدت لـ“صحيح مصر” أن اجتماعات عُقدت بين ممثلين عنه وضباط من الجيش الإسرائيلي لبحث “إدارة الأمن المحلي”. تصريحات نتنياهو تتطابق مع التقارير التي ذكرته بالاسم، ما يجعل أبو شباب النموذج الأوضح لفكرة الوكالة المسلحة: سلاحٌ محلّي بغطاءٍ عشائري، يخدم هدفًا احتلاليًا واضحًا.
الأسطل.. الضابط الذي انقلب على مهمته.
إلى الجنوب، في قرية قيزان النجار، برز اسم حسام الأسطل، ضابط الأمن الوقائي السابق. في أغسطس 2025، أعلن تأسيس “القوة الضاربة لمكافحة الإرهاب”. عند مقارنة خلفية المقابلة التي أجراها مع The Telegraph بصور الأقمار الصناعية PlanetScope، 4 أغسطس، تأكد أن المقابلة صُوّرت داخل المنطقة الأمنية ذاتها التي تسيطر عليها إسرائيل. الأسطل تحدّث عن “تنسيق أمني مشترك”، وزعم أن قواته أحبطت هجومًا لحماس بدعم جوي إسرائيلي. في بث مباشر، قال بوضوح: “رأس الحمساوي بخمسين دولار”
تزامنت منشوراته مع عمليات قصف على أطراف خان يونس، وفق بيانات LiveUAmap. بيان عائلته الذي تبرّأ منه أكّد ضمناً أنّه داخل “المنطقة الإنسانية” التي يديرها الجيش. بهذا، تحوّل الضابط السابق إلى وكيلٍ ميداني، يستمد نفوذه من الحماية الإسرائيلية لا من شرعية محلية.
المنسي… جيش شعبي في مدرسة.
شمالًا، أسّس أشرف المنسي “الجيش الشعبي – قوات الشمال”. تحليل صور الأقمار الصناعية وصور الأقمار المدنية (Sentinel-2) أظهر تجمعات مسلحة داخل فناء مدرسة عزبة بيت حانون الابتدائية، وهي ذاتها التي ظهرت في مقاطع الفيديو المنشورة في سبتمبر. الأسلحة الظاهرة في المقاطع مطابقة لطرازات بندقية قصيرة كانت تُستخدم في وحدات الاحتياط الإسرائيلية. مصادر من المقاومة أكّدت أنّ المنسي عمل بتنسيق مع أبو شباب، وأنّ معظم عناصره من أصحاب السوابق. في أحد مقاطع الفيديو، وجّه المنسي شكرًا لدونالد ترامب على “جهوده لإنهاء الحرب”. بعد أيام، اشتبكت قوات القسام مع مجموعته في جباليا، قبل أن يفرّ من بقي منهم نحو خطوط الجيش.
جندية وحلس… اقتصاد الحرب.
في قلب غزّة، يتقاطع المال مع الولاء. أحمد جندية، موظف مخابرات سابق في رام الله، أدخل أموالًا من الضفة عبر شبكة “التسييل النقدي“ مقابل عمولات وصلت إلى 80%، وفق سجلات تحويلات اطلعت عليها “صحيح مصر“. استغل الفوضى لتجنيد شبانٍ لجمع معلومات عن مواقع المقاومة. بعد محاصرته في حي الشجاعية، سلّم نفسه لأجهزة حماس. رامي حلس، من جهاز “قوة 17″، عمل بتنسيق مباشر مع ضابط إسرائيلي يُدعى “أبو رامي“ تحقيقات فلسطينية أظهرت تلقيه تمويلًا عبر حسابات خارجية، ونفّذ عمليات اختطاف وتسليم لمقاتلين. صوره التي انتشرت على قنوات تلغرام أظهرت أسلحة متطابقة مع مخزون وحدات إسرائيلية قديمة. عائلته أصدرت بيانًا تتبرأ منه وتعتبره “خارج الإجماع الوطني“. الاثنان يمثلان الوجه الاقتصادي للميليشيا: حيث يتحول السلاح إلى استثمار، والحرب إلى تجارة تدار بالعمولات.
العائلات تفكك النسيج الاجتماعي.
لم تكن حماس وحدها من واجهت هؤلاء المسلحين؛ العائلات نفسها دخلت في الحرب. في حي الصبرة، أُعدم متعاونون ميدانيًا. في خان يونس، اشتبكت الحركة مع أبناء عائلة المجايدة بعد اتهامهم بقتل عنصرين من القسام. وفي الشجاعية، اندلع قتال دامٍ بين القسام وعائلة دغمش خلّف أكثر من عشرين قتيلًا. تحليل خرائط الاشتباكات (LiveUAmap) أظهر أنّ جميعها وقعت على تخوم “المنطقة العازلة“ التي أعلنت إسرائيل نيتها الإبقاء عليها. بمعنى آخر: الاقتتال الداخلي غطّى انسحابًا إسرائيليًّا محسوبًا، وسمح للجيش بإعادة تموضع دون كلفة بشرية مباشرة.
من الأمن إلى المسؤولية القانونية.
من منظورٍ إسرائيلي، تبدو السياسة عملية: قوات محلّية تقلّل الخسائر وتضبط الأرض. لكن وفق القانون الدولي الإنساني، تتحمّل إسرائيل المسؤولية الكاملة عن أفعال وكلائها استنادًا إلى مبدأ السيطرة الفعلية
(Effective Control). فحين تسلّح دولة جماعاتٍ تعمل في منطقة تحت احتلالها وتزوّدها بالمعلومات، تصبح مسؤولة قانونيًّا عن جرائمها. بهذا، تتحوّل هذه الميليشيات إلى امتداد غير معلن للجيش الإسرائيلي لا إلى قوة مستقلة.
مشهد الإعدام هذا سيتكرر، سيخسرها الكثير في نسق المجتمع الدولي. لكنّها لا تملك ترف المواربة عنه للأسف، هكذا قررت، فالمسألة في قواعد الاشتباك هذه ليست كضرب النار للتعطيل في الساق أو الكاحل كما استهدفت رجال دحلان، الهدف لا يمكن أن يكون إلا shoot to kill التصويب للقتل، وعلى الملأ وجماعة! حماس في هذا إما قاتلة أو مقتولة!
الاستعمار بالتفويض… نموذج غزة 2025
الظاهرة ليست جديدة: في لبنان الثمانينيات أنشأت إسرائيل “جيش لبنان الجنوبي”، وفي العراق سلّحت الولايات المتحدة “الصحوات”. اليوم يتكرّر المشهد في غزة. بيانات الأقمار الصناعية بين أبريل ويوليو 2025 تظهر أنّ المناطق التي انتشرت فيها الميليشيات شهدت انخفاضًا في الحركة المدنية بنسبة 40% مقارنة ببقية القطاع. أيّ أنّ الأمن لم يتحقّق، بل تحقّقت السيطرة عبر الفوضى. الاحتلال لم يعد يحتاج إلى جنود دائمين، بل إلى وكلاء محليين يحافظون على نظام الخوف من الداخل.
من قتال الوكيل إلى قتال الوكالة.
حماس رسالتها في الإعدام هذا لإسرائيل، لإثبات أنّها ما زالت تملك القرار في وجه ميليشيات محليّة أنشأتها الغاصبة المحتلة. المنفّذون لم يعودوا فرقًا منظّمة بل وحدات صغيرة بلا أوامر مركزية، تتحرك بدافع الخوف أكثر من الانضباط. الفعل أقل تنظيمًا وأكثر ارتجالًا، لكنّه أخطر رمزيًا. المقاومة صارت تمارس عنف الدولة ضد مجتمعها. في الحالتين، المشهد واحد والسياق مقلوب؛ ففي 2007 كان القتل وسيلةً لبناء سلطة بديلة، أما في 2025 فقد صار علامةً على تفكّك السلطة نفسها. ما كان آنذاك سعيًا للتحرّر من تبعية، أصبح اليوم محاولة إنقاذ من تآكلٍ داخليّ سبّبه تسليح الاحتلال للعشائر والميليشيات. والمفارقة المؤلمة أنّ حماس التي قاتلت لإسقاط جهاز أمنيّ فلسطينيّ موالٍ لإسرائيل، باتت بعد ثمانية عشر عامًا تُنفّذ الإعدامات في المكان نفسه ضدّ فلسطينيين آخرين جندهم الاحتلال. دار التاريخ دورته الكاملة: من قتال الوكيل إلى قتال الوكالة.
خاتمة
ما جرى في غزة لم يكن مجرّد اقتتالٍ داخلي، بل هندسة عسكرية للانقسام. إسرائيل أعادت صياغة مفهوم “الاحتلال“ ليصبح هيمنة من وراء ستار، تحكمها البنادق المحلية بإشرافها. من “القوات الشعبية“ إلى “القوة الضاربة“، بُنيت طبقة من المقاتلين بلا انتماء، وسلاح بلا وطن. الاعتراف الذي ظنّه نتنياهو دفاعًا عن الجنود كان إعلانًا عن ميلاد جيلٍ جديد من الحروب: احتلالٌ بلا جنود. ميليشياتٌ بلا راية. وحربٌ تلتهم ذاتها من الداخل.
منهج التحقيق:
تحليل صور الأقمار الصناعية (Sentinel/ PlanetScope)، بحث عكسي للفيديوهات، مطابقة جغرافية عبر LiveUAmap، مراجعة مقابلات منشورة (The Telegraph، BBC Arabic، صحيح مصر(، تتبّع التحويلات النقدية عبر سجلات مالية محلية، ومقابلات ميدانية مع سكان غزة ووسطاء سابقين.
المصادر الرئيسة:
• “صحيح مصر” – الميليشيات المتعاونة مع إسرائيل في قطاع غزة (سبتمبر 2025).
• BBC Arabic – نتنياهو يقرّ بتسليح عشائر فلسطينية معارضة لحماس (يونيو 2025).
• The Telegraph – مقابلة مع حسام الأسطل (أغسطس 2025).
• Ynet وHaaretz – تقارير حول سياسات الجيش في رفح والشمال.
• مقابلات وتحليل مفتوح المصدر (OSINT).




