فكر
الكاتبة: هبة ماهر
يتمتع الوسط السّوري بفسيفساء اجتماعيّة غنيّة بالتّنوع الطائفيّ والعرقيّ والدينيّ، وسأسعى في هذا المقال جاهداً إلى تقديم حلول فعّالة للقضاء على الطائفية التي تصاعد دخان نيرانها منذ 14 عاماً، فكان دماً وتهجيراً وعداوةً وثأراً، واضعة سنغافورة مثالاً حيّاً متجاوزة في ذلك فرقاً جوهرياً بينهما المتمثل في تركيب سوريا الجغرافيّ الذي جعلها منذ القدم ساحة من الصراع الدوليّ والإقليميّ متناسية المعضلات الكبيرة التي عمل عليها النظام البائد فجعل الأمر أكثر تعقيداً.
الرّسم السكانيّ لسكان سوريا على الخريطة يشير إلى تكتلاتٍ دينيّة متمثّلة في السنّة والعلويين والمسيحيين والدّروز والإسماعيليين وإلى تكتلاتٍ عرقيّة متمثلّة في العرب، والأكراد، والتّركمان، والآشوريين، والكلدان، والشّركس، والأرمن يتوزع كلّ منهم في مناطق معينة منذ القدم وإلى الآن، ففي الغالب ورث الأبناء الأرض عن الأجداد حتى أصبح العديد من حارات المدن والأرياف والأزقة ملكاً لمجموعة من الأقارب أو لطائفة أو لعرقٍ معين، وهكذا تكونت الأحياء العرقيّة وتعزّزت الرّوابط التّعايشية اليوميّة بينهم دون غيرهم، فمن أنجح السّياسات التّي قد تعزّز الاندماج الاجتماعي وتفضي إلى تقليل التّكتلات العرقية هي سياسة إعادة توزيع السّكان بطريقة متدرجة في غضون 20 عاماً على الأكثر دون حرمان أحد من حقه في ممارسة دينه أو التّعبير عنه والإفصاح به.
ويكون ذلك بداية في توسيع استثمارات الدولة والإكثار من المشاريع التّنموية بحيث يصل عدد الموظفين لدى الدولة 60% من المواطنين، فعندما يكثر الاستثمار يتيح لكلّ شرائح المجتمع المتعلمين وغير المتعلمين، الشّباب والمسنين، الأصحاء والمرضى إيجاد وظائف ويكون الاستثمار بمال الشعب كون البلد الآن مخدوشة مكسورة الاقتصاد، وأذكر مثالاً استثمارياً ناجحاً وعلى مثله يمكن أن تقاس باقي الأمثلة؛ إنشاء سكنات طلابية بتمويل من المال العام، ويُمنح حقّ استغلاله للجهة المنفذة تحت إدارة الدولة لمدة 20 سنة ابتداءً من تاريخ التّشغيل الفعليّ للمشروع على أن تنتقل ملكية جميع المرافق والمنشآت إلى الدولة ملكية كاملة ونهائية عند انقضاء مدة الامتياز، دون أيّ مقابلٍ إضافي .
ويوجد غير ذلك الكثير من الأمثلة التي تتيح توسيع عدد الموظفين والموظفات في الدولة كإنشاء مشاريع أو مرافق جديدة تحتاج إلى موظفين جدد وفتح تخصصات ووظائف إضافية في القطاعات الحكوميّة مثل الصحة والتّعليم، واستحداث إدارات أو وحدات جديدة لتطوير الخدمات العامة والتوسع في برامج التّدريب والتّأهيل لتوظيف خريجين جدد أو غير متعلمين أصلاً، وتحسين بيئة العمل لجذب الكفاءات وإطلاق برامج دعم وتمويل للمشاريع الحكومية التي توفر فرص عمل وغيرها الكثير من المشاريع التي تتيح للدولة زيادة عدد الموظفين.
ثمّ إنشاء أحياء سكنية مخصّصة لموظفي الدولة، بهدف توفير الاستقرار السكني وتحسين ظروفهم المعيشية، ويجوز تمويل هذه الأحياء من الخزينة العامة أو عبر آليات الشّراكة مع القطاع الخاص، وتُحدّد شروط الاستفادة وطرق الانتفاع أو التملك بموجب اللوائح التنفيذية التي تعطي امتيازات عالية جداً جداً فقط للموظفين الذين يُفرزون إلى غير مناطقهم ولا سيما التركيز على فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم من 20-30 سنة، وبذلك تضمن الدولة على الأقل توزيع 50% من فئة الشباب إلى مناطق مختلفة، وتعزّز الاندماج الاجتماعي في سياسة الإسكان من خلال فرض الحكومة نسباً محدّدة لكلّ عرقٍ داخل المجمعات السّكنية، وبذلك يعيش السّكان من مختلف الخلفيات الثقافية والاجتماعية جنباً إلى جنبٍ وبهذا يتم منع ظهور الانعزال والانقسام العرقي ويعزز التعايش اليوميّ بين المواطنين وتُبنى جسور الثّقة بينهم.
يجب أن تتركّز جهود الدّولة بشكلٍ كبير على القرى السّورية فهي تمثل مزيجاً غنياً، لكنّه محدد بالمنطقة فلكلّ قرية طابعها الدّينيّ والثّقافيّ والطّبيعيّ الخاص، ولا يلتبس على أحد سعة انتشار القرى السّورية، فهي تمتد على امتداد جغرافيا سوريا من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب ومن السّاحل إلى البادية لدرجة أنّها تمثل 75% من التّجمع السّكاني في سوريا، فالاعتناء بها ومحاولة اللعب بالرّوابط الاجتماعية فيها يجعل من أمر الدّمج العرقيّ والدينيّ أكثر سهولة، ويكون ذلك في ضمّ العديد منها إلى المحافظات، فتصبح بذلك أحياء من المدينة بدلاً من أن تبقى قرى مستقلة في عاداتها ودينها وعرقها، بالإضافة إلى تقسيم المحافظات التي تحتوي على قرى عديدة بحيث يستحيل دمج معظمها، فبدلاً من أن تكون سوريا 14 محافظة لا تمثل إلا 25% من التجمعات السكنيّة تصبح مثلاً 18 محافظة تمثل 50% من التجمعات السكنية.
من أكثر المعضلات التي قد تعيق تحقيق التّنوع العرقي الحقيقي هي الصعوبات الموجودة في المواصلات، فمتى ما حُلّت هذه المشكلة ويُسّرت وانخفضت تكلفتها سيجد المواطن متنفساً أوسع للتنقل بين المحافظات والقرى السّورية ممّا يعزّز التّفاعل السّليم بين مختلف شرائح المجتمع، فلقد كانت المواصلات في كثيرٍ من الأحيان سبباً مباشراً في عزلة المناطق عن بعضها إذ كانت بعض العائلات ترفض تزويج بناتهنّ خارج مناطقهنّ خشية بُعد المسافة وصعوبة التّواصل، وأيضاً كان العمل خارج المنطقة أمراً نادراً، ولا يكون إلا للأشخاص مالكي وسائل النّقل الخاص ممّا ساهم في الحد من الاختلاط الاجتماعي، والعرقي، فلو شُقت قريباً الطّرقات وأُدخلت القطارات والمواصلات السّريعة، ووُضع بعض الامتيازات فيها لكبار السن وللمتقاعدين وللمرضى ولأبناء الشّهداء وللطّلاب وللعاملين في غير مناطقهم، سنكون قد حللنا عقدةً كبيرة من العقد التي نعاني منها المتمثّلة في الانعزال الاجتماعي.
سوريا بلد تحتوي على كلّ المقومات لتصبح من أكثر البلدان ريادة في مجال السّياحة نظراً لغناها التاريخيّ والحضاريّ وتنوع الجغرافيا، فهي من الدّول التّي تحتوي على جبال وأنهار وطبيعة خضراء ومساحات شاسعة يمكن تحويلها إلى مناطق سياحية بجدارة، ومن المعضلات التي نشاهدها عدم استغلال الكثير من المناطق في السياحة، فالمناطق السياحية في سوريا محدودة ومقتصرة على بعض المحافظات، ثمّ المعضلة الثّانية هي عدم ممارسة السّوريين للسّياحة، ولا أخصّ الفترة الزّمنية بعد الثّورة أو خلالها أبداً بل حتّى قبل الثورة، وهذا ما عمل عليه النّظام البائد بأن ربط النّاس في أماكنهم حتّى لم يعودوا يروا أنّ السّياحة والتّنقل حقّ من حقوقهم، فكلّما كانت السّياحة ميسّرة ومتاحة للجميع قلّ الانعزال الاجتماعي وزاد الاندماج والتّفاهم بين فئات المجتمع، أمّا حرمان الناس من السياحة أو تقييدها فيُسهم في تعميق الانقسامات الاجتماعية ويكون ذلك كما قلت في البداية من خلال زيادة الاستثمار في السياحة وإعطاء الموظفين مكافآت سياحيّة سنوية بسياساتٍ ذكيّة، مثلاً فرض عليهم الذّهاب إلى السّياحة والأخذ من رواتبهم السّنويّة سعر ذلك دون أن يشعروا، وأضرب مثلاً تخصيص 2% من الراتب السنوي مكافأة سفر سياحية تُصرف تلقائياً على برامج سياحية محددة، بحيث يُشجع الموظف على زيارة مناطق مختلفة من الدّولة هذه البرامج منظمة وممولة جزئياً من ميزانيّة الدولة للموارد البشرية مع مراعاة أن يختار الموظف توقيت السفر وفقاً لظروفه.
وبهذا تحقّق الدولة أهدافاً عديدة في وقت واحد استفادتها من الاستثمار في السياحة اقتصادياً من خلال الجذب السياحي لغير المواطنين، وعاد إليها سنوياً 2% من رواتب 60% من الشعب كما ذكرنا في الأعلى الخطة الأساسيّة هي زيادة عدد الموظفين في الدّولة، وعزّزت خروج المواطن من قوقعة العزلة الاجتماعية، وعملت على ترفيه المواطن من جيبه ومن راتبه.
كلّ طائفة أو جماعة دينية لها الحقّ في إدارة شؤونها القانونيّة والشّخصية وفق معتقداتها، ويُعامل أفرادها أمام القانون بحسب تلك القوانين الخاصة مثل قوانين الأحوال الشخصية (الزواج، الطلاق، الميراث) والهدف من ذلك حماية حقوق الطائفة الدينية في مسائلها الدّاخلية مع الحفاظ على الوحدة العامة للدولة.
وإنّ ذلك يُتيح العيش بسلام وتمكين الشّعب من رفع الشّكاوي والاحتكام للدولة، أمّا عدا ذلك فسيُبقِي العديد من شرائح المجتمع في حالةٍ من الصّمت عن الحقوق والحقن على الدّولة، ولقد شهدنا ذلك أيّام النّظام البائد حيث كان التّوريث يقوم على أنّ للذكر مثل الأنثى، فكانت المجتمعات المسلمة لا تتحاكم إلى الدولة و تحصل باستمرار نزعات كبيرة بين الأخ وأخيه وبين الأخت وأخيها، ولا نريد الآن أن يعيش أخوتنا من الطوائف الأخرى التجربة نفسها بل نريد أن نضمن حقوقهم ونحقق لهم عدالة ترضيهم.
وإنّ تطبيق الأحكام الشّخصية الطائفيّة يزرع الرّضى في القلوب ويمنح الأقليات شعوراً بالأمان، ويحدّ من الاحتكاكات والتّوترات بين الطوائف المختلفة بسبب الانتهاكات أو التّفسيرات المتباينة للقوانين التّقليديّة.
قال ليكوانيو المؤسس الأول لسنغافورة الحديثة: نحن في سنغافورة لا نملك شيئاً إلا الإنسانيّة، ابتسمت وأنا أشاهد الوثائقي وقلت يا أستاذ ليكوانيو بعض الشعوب تمتلك كلّ شيء إلا الإنسانية وهذا سرّ النخر الذي بدأ ينهش في بنيانها، وسيكون السبب في هشاشتها ودمارها، فمن يملك الإنسانية يا عزيزي يملك كلّ شيء، وإنّ الشّعوب الصّالحة الملتزمة لا أقول بالدين كأعلى الدّرجات وإنّما بقوانين الفطرة شعوب جبارة ترفض الفساد والظلم والاستعباد، وهذا يكفي لأن تُبني البلاد العظيمة؛ فالعمل على إعادة تشكيل الإنسان السوريّ بمختلف فئاته الطائفية سيؤدي إلى بناء أمة قوية متماسكة، تربطها الإنسانيّة والفطرة والجوار الحسن والحضارة الرّاسخة.
ولقد انقسمت سوريا بسبب الثّورة خلال 14 عاماً إلى فئاتٍ متهاونة مقصرة في مبادئ الإنسانيّة وإلى فئات مبالغة متشددة وإلى أخرى قليلة متوسطة ضائعة بينها، فإعادة تشكيل المفاهيم لكلّ شرائح المجتمع من أكثر الأمور التي تساعد على كسر القوقعة والسّماح بمشاهدة النّور في بلادنا الحبيبة.
على الدولة أن لا تستهين مطلقاً بخطورة تفكك الرّوابط الاجتماعية بين فئات المجتمع السّوري، وأن تدرك أنّ هذه المشكلة إذا لم تُعالج بجديّة قد تتحوّل إلى كارثةٍ تهدّد استقرار البلاد ووحدتها، ومن الواجب على الدّولة أن تبذل جهوداً حثيثة ومستمرة لتقليص حجم هذه المخاطر إلى الأبد دون أن يصيبها اليأس في حال تعثرت محاولاتها في البداية، فالكثير من الدول التي عانت من انقسامات عرقية وطائفية عميقة مثل سنغافورة ورواندا استطاعت من خلال سياسات ذكية وشجاعة أن تتجاوز تلك الانقسامات، وأن تحقق مستويات عالية من التّماسك الاجتماعي، فالدولة السّورية قد تنجح في قمع الحركات الطائفيّة عبر سنّ قوانين صارمة، وفرض عقوبات رادعة، وتوحيد التّعليم والخطاب والعطل الرّسميّة غير أنّ النّهج الأنجع يكمن في تبنّي منهجيات بنيويّة تعالج جذور الانقسام وتعزّز الانسجام المجتمعي.




