تجارب

أولُ حبّة طماطم بعد الإبادة!

أكتوبر 27, 2025

أولُ حبّة طماطم بعد الإبادة!

 

لم أنتبه لفكرةِ (التغيّر بعد الإبادة) بالتحديد، إلا حين تناولتُ أول حبّة طماطم عند انتهاء الحرب وبعد مجاعةٍ طويلة، الحقيقة أنّني طرحت سؤالاً على أمي حينها وهو:
– هل الطماطم لذيذة إلى هذا الحدّ؟
لكنّني لم أكتفِ بسؤالها، إذ أجريتُ اتصالاً هاتفياً بصديقتي المقرّبة، وسألتها:
– هل تعلمين كم الطماطمُ لذيذة؟ تخيّلي لم أكن أعرف أنّ طعمها لذيذٌ هكذا ..!
تلك اللحظة جعلتني أنتبه لتفاصيل كثيرة لم أكن أتلمّسها حقيقةً في حياتي، إذ كان يوضع طبق السّلطة أمامي، وكنت أشعر بكسلٍ كبير وأنا أمدُّ يدي له، وكان طعم الخيار والخس والطماطم عاديًّا، لم أكن أشعر بمتعةٍ وأنا أتناوله، أو بالأحرى لم أكن أُركّز في طعمه، فكان طعمُه بالنسبةِ لي حياديًّا أمام ذائقتي، وهذا يجعلني أتساءل، كم هي الأشياء الموجودة في حياتنا والتي نستعملها ونأكلها ونلبسها ونستهلكها بشكلٍ شبه يوميّ، ولكنّنا لا نعرف ماهيّتها، ابتداءً بحبّةِ الطماطم هذه إلى أدوات التنظيف بأنواعها المختلفة والغاز وحتّى الصنبور الذي يتدفق عبره الماء، لقد كان ذلك الصنبور نعمةً كبيرة، لم أكن أعرف تلك الجمالية إلّا حين انقطع عنّا الماء، واضطررتُ أن أسكب الماء لأغسّلَ يدي عبر دلو!
حتّى مفاتيح الكهرباء أصبحت ذاتَ قيمةٍ أكبر، أن تنقُر بإصْبعكَ عليها في أقلّ من ثانية فيتملئ المكان بالنور، لقد كانت حركةً عاديّة لمدّةٍ قصيرة جدًّا، لكن لم أكن أعرف مدى عظمة فيزيائية تلك الحركة التي لم أنتبه لها يوماً أبداً!
لم تعد التفاصيل مجرّدَ تفاصيل بالنسبة لي، بدأتُ أنتبه كثيراً لكلِّ شيء، وبدأتُ أشعر بأنّه أمرٌ ممتعٌ وفارق، لأنّني بهذا الشكل أقدّرُ نعم الله عز وجل في حياتي بشكلٍ أكبر، وأنتبه إلى كلّ تلك التفاصيل الغارقة في زحام النعم، من رغيف الخبز الطازج إلى أن تعثر على نعل حذاءٍ جيّد دون أن تضطرَ إلى ترقيعه أكثر من مرّة، نعم حتّى الحذاء الجيّد أدركتُ قيمته العظيمة في الإبادة!
وحين أعود لحبّة الطماطم أدركتُ أنّ إضافتها على الطعام فارق أيضاً، فقد حلّت مكانها الصلصة في أوقاتٍ كثيرة خلال الحرب، وكذلك كم أنّ طعمَ الليمون الطبيعيّ مميّز، وأنَّ حامضَ الليمون كبديلٍ مهما كان طعمُه جيّداً فلا يشبه صنع الله البديع .
وذلك أخذني فعلاً لأعرف كم أنّ الأشياء على طبيعتها لذيذة ومميّزة، وأنّ الله عزّوجلّ دلّلَ الإنسان على الأرض بأنْ خلَقَ له كلّ هذه الثمار الكثيرة والمتنوعة والرائعة، وأنّ في كلّ ثمرةٍ نكهةً وسرًّا وجمالًا نادرًا ابتداءً من ملمسها الخارجيّ حتّى باطنها المميّز، وكيف أنَّ للقشرة طعمًا وللباطن طعمًا، ولا يستويان في طعمهما، وذلك من بديع جمال الله المصوّر العظيم.
تفتنني تفاصيل هذا الجمال، والإتقان الأخّاذ، حبّة الطماطم تلك والتي كنت أنظر لها بنصفِ عينٍ أحياناً، وأحياناً لا أراها بجانب أطعمة أخرى دسمة وشهيّة، كم كانت حبّةً رائعة، وكم كنتُ محجوبةً عن كلّ هذا الجمال.
وفي هذا الحديث جمال يطول ويطول، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

شارك

مقالات ذات صلة