آراء

من عبادة الأيديولوجيا إلى عبادة الذات… هل تبدّلت خرائط الوعي عند العرب؟

أكتوبر 27, 2025

من عبادة الأيديولوجيا إلى عبادة الذات… هل تبدّلت خرائط الوعي عند العرب؟

في منتصف القرن العشرين، اجتمع عشرات المفكرين في مدينة ميلانو الإيطالية في مؤتمرٍ حمل عنوان “مستقبل الحرية”. كانت القاعة تضجّ بأصوات المفكرين الغربيين وهم يعلنون بثقة أنّ العالم دخل عصر “نهاية الأيديولوجيا”، معتقدين أنّ الشيوعية لفظت أنفاسها الأخيرة، وأنّ الإنسان الحديث تجاوز الحاجة إلى العقائد الكبرى لتفسير الوجود أو توجيه المصير. غير أنّ العقود التالية، التي امتلأت بصور الحروب والانقسامات والصراعات الدينية والعرقية، طرحت سؤالاً أكثر إلحاحاً: هل بقي للأيديولوجيات بقية من حياة؟

لقد كانت الأفكار —أو الأيديولوجيات— على مدى قرون طويلة هي التي تصنع خرائط العالم، وتحدّد مصائر الأنظمة والشعوب، وتشكل مسار التاريخ الإنسانيّ. فهي وقود الحركات ومحرّك الجماهير، ترفع الأمم حين تُلهمها وتسقطها حين تستعبدها. لكنّها اليوم تبدو كصوتٍ بعيدٍ قادمٍ من زمنٍ انقضى؛ وكأنّ العالم استيقظ ليجد نفسه بلا فكرةٍ جامعة، وبلا حلمٍ يُلهمه أو يقوده. فهل انتهى زمن الأيديولوجيات حقًّا؟ أم أنّنا نعيش طوراً جديداً من أفولها المؤقت؟

في القرن الماضي، كان الانتماء إلى فكرةٍ شاملة نوعاً من الإيمان المقدّس. كان الإنسان يرى ذاته ووجوده من خلالها: كالقوميّ الذي يحلم بوحدة العرب، أو الماركسيّ الذي يطلب العدالة، أو الليبراليّ الذي يؤمن بحرية الفرد، أو الإسلاميّ الذي يتطلّع إلى عودة الخلافة. كانت الأيديولوجيات تمنح الإنسان معاني عليا تتجاوز الفرد إلى الجماعة، وتجعل الحياة رحلةً نحو خلاصٍ جماعيّ. لكنّ التجارب المريرة والانهيارات السياسية والخيبات المتكررة، إلى جانب التناقضات الفادحة بين الشعارات والسلوك، دفعت الناس إلى الشكّ في كل وعدٍ تروّجه الأيديولوجيات، فانفرط عقد الإيمان بالأفكار الجامعة، وصعدت بدلاً منها فكرة التمحور حول الذات.

لم يعد الإنسان يبحث عن العدالة كقيمةٍ كونية، بل عن راحته الشخصية، ولا عن الأمة، بل عن ذاته — وذاته الرقمية تحديداً. تحوّل الالتزام العقائدي المقدّس إلى انتماءٍ شكليٍّ سريع الزوال: نغمة، شعار، أو منشور على وسائل التواصل. الأيديولوجيا لم تمت، لكنّها ذابت في تفاصيل الحياة اليومية، وأصبحت عابرة كإعلانٍ تجاريٍّ يخاطب العاطفة لا العقل. غير أنّ هذا الشكل الجديد جعلها أكثر خطورة، لأنّ خمولها يُخفي مفعولها ويجعلها تُمارَس بلا وعي.

في العالم العربي، حملت بعض الأيديولوجيات في جوهرها وعداً بالنهضة والتحرّر والاستقلال عن الهيمنة الغربية، لكنّها انقلبت إلى صراعاتٍ أرهقت المجتمعات ومزّقت الصفوف. وبعد عقودٍ من الشعارات القومية والدينية، وجد الناس أنفسهم أمام واقعٍ عربيٍّ مرير: لا وحدة ولا عدالة ولا نهضة. انسحب كثيرون من ساحة الفكر إلى ساحة المصلحة الشخصية، ومن حرارة الأحلام إلى برودة الواقعية والبراغماتية. غير أنّ السؤال المؤلم يظل قائماً: إذا سقطت الأيديولوجيا، فما الذي سيجمعنا؟

التاريخ يعلّمنا أنّ الإنسان لا يعيش بلا فكرة، فهو كائن اجتماعي يبحث عن معنى يربطه بغيره. وحين تموت الأيديولوجيات الكبرى، تولد بدائل مصغّرة أكثر ضراوة: الهويات الطائفية، القوميات الضيقة، الولاءات العابرة حول رمزٍ أو قضيةٍ مؤقتة. وما نراه اليوم من فوضى في الانتماء ليس تحرّراً، بل هو انتقال من عبادة الفكرة إلى عبادة اللافكرة، من الأيديولوجيا الواعية إلى الانقياد اللاواعي. لم نتحرّر بل تبدّل القيد فحسب.

الحل لا يكمن في استعادة الأيديولوجيات كما كانت، بل في تجديد الفكر وبعثه بروحٍ جديدة، تُعيد التوازن بين الإيمان والعقل، بين الحريّة والانتماء، بين التجربة التاريخية والواقع المعاصر. فالمجتمعات التي تفقد أفكارها الجامعة لا تُشفى بالفراغ، بل ببناء معنى جديد يُلهمها دون أن يستعبدها.

إنّ زمن الأيديولوجيات لم ينتهِ، بل غيّر ملامحه. نحن نعيش مرحلة انتقال من الصراع بين الأفكار إلى الصراع على الإنسان نفسه: على وعيه وذوقه وقيمه وهويته. وهنا يبرز دور المثقّف الحقيقيّ: أن يصنع توازناً بين الفكر والحريّة، بين الحلم والمسؤوليّة، وأن يعيد للوعي العربي بوصلة المعنى.

فالأمم لا تعيش بلا فكرة، وكذلك الشعوب. ويبقى السؤال الأخير معلّقاً:

هل بدأ زمن الوعي؟

شارك

مقالات ذات صلة