مشاركات سوريا
انتشر في الأيام القليلة الماضية خبرٌ مثير مفاده “اغتيال المجرم مقداد فتيحة في غارة إسرائيلية جنوبي لبنان”، وفي وقتٍ قصير امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بصورٍ قديمة للمجرم فتيحة مصطحبة بتسجيلات مجهولة المصدر، بالإضافة لبيانات تم نسبها لجهاتٍ لبنانية وسورية دون أيّ تأكيدٍ رسمي.
وسرعان ما أكدت منصات التحقق الإخبارية أنّ القصّة مُلفقة، إلا أنّها لم تمر بهدوء، فاسمُ “مجرم الحرب مقداد فتيحة” الضابط السابق في صفوف نظام الأسد البائد قد تمّ وضعه طويلاً في قائمة المطلوبين لتعلقه بجرائم تعذيب وقتل مئات المدنيين خلال سنوات الثورة السوريّة، مما جعلَ الشائعة تبدو كحلٍّ ملائمٍ لمعضلة العدالة المؤجلة.
وفي الوقت ذاته، طالبت دمشق بيروت قبل الشائعة بقليل بتسليمِ عددٍ من الضبّاط الفارين من يد العدالة في حكومةِ دمشق، قد تزامن ذلك بزيارة وزير الخارجيّة السوري “الشيباني” إلى لبنان على خلفية مطالبة الشيباني بمدنيين محتجزين في سجون لبنانية تجاوز عددهم 2000 شخص، بالإضافة إلى تسليم مجرمي الحرب الفارين في الأراضي اللبنانية، ليلوّح المجرمون بموتٍ إعلامي مصنّع، كوسيلةٍ جديدة للإفلات من الملاحقة.
هكذا، لم تكن إشاعة مقتل فتيحة مجرّد خبر عابر، بل مثالاً صارخاً على صناعة “موتٍ وهميّ” يحمي مجرماً حقيقياً، في بلدٍ ما زال العدل فيه معلّقاً بين السياسة والإعلام.
زيارة الشيباني إلى لبنان وفتح ملف المجرمين
في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول لعام 2025، زار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني العاصمة اللبنانية بيروت، وقد حملت زيارته دلالاتٍ ورسائل سياسيّة تجاوزت الطابع البروتوكولي.
فبعد مضي أقل من عام على سقوط نظام الأسد البائد، تطرقت دمشق في زيارتها لبيروت لأكثر الملفات حساسية مع بيروت، وهو “ملف الضباط والمجرمين الفاريّن من العدالة السورية”، وخصيصاً ممّن ارتكبوا مجازر وجرائم ضد المدنيين السوريين خلال سنوات الثورة السوريّة، ثم لجؤوا إلى لبنان عبر طرقٍ غير شرعية أو من خلال طرطوس وجبل محسن.
خلال الزيارة، التقى الشيباني بنظيره اللبناني، حيث طُرحت مسألة التعاون القضائي وتسليم المطلوبين السوريين المقيمين في لبنان، بالتوازي مع مطالبة دمشق بالكشف عن مصير أكثر من ألفي معتقل سوري في سجن رومية، تقول منظمات حقوقية إنّ معظمهم من المدنيين الذين دخلوا لبنان بطرق غير نظامية.
في المقابل، أبدت بيروت حذراً دبلوماسياً واضحاً، مدركةً أنّ الملف يلامس توازناتٍ طائفية وأمنية دقيقة داخل لبنان، خاصة أنّ بعض هؤلاء المطلوبين ينتمون إلى مناطق محسوبة على قوى لبنانية نافذة كمليشيات حزب الله اللبناني الذين قاتلوا بجانب نظام الأسد البائد في حربه ضد السوريين الذين طالبوا بالحريّة.
وبين خطاب “الصداقة الجديدة” الذي ترفعه دمشق، والتخوّف اللبناني من اهتزاز الاستقرار، يظلّ السؤال الأبرز معلقاً: هل تستطيع بيروت أن تواجه ماضيها وماضي ضيوفها؟ أم أنّ العدالة ستبقى رهينة المساومات السياسية، كما كانت دائماً في المشرق الممزق بين ذاكرة الدم ومصالح البقاء؟
ولادة الإشاعة: كيف “مات” فتيحة على الورق؟
بدأت القصة ككلّ الشائعات التي وُلدت في غرفٍ مظلمة: منشورٌ على صفحةٍ مغمورة في فيسبوك، يليه تسجيل صوتي مجهول المصدر يتحدث عن “غارة غامضة” استهدفت سيارة في الجنوب اللبناني، قبل أن تتناقلها حسابات “الذباب الإلكتروني الموالية للأسد البائد” بوصفها عملية تصفية لمقداد فتيحة، خلال ساعات فقط، انتشر الخبر كالنار في هشيم، دون أيّ توثيقٍ من جهةٍ رسمية لبنانية أو إقليمية، ودون أن تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الغارة المزعومة.
التحقيقات المفتوحة وعمليات التحقّق الصحفية التي تابعتها منصات متخصصة أظهرت لاحقاً أنّ الخبر لا يستند إلى أيّ أساس مادي لا بيان من الجيش اللبناني، ولا بلاغ من القوى الأمنية، ولا حتى شهود في المنطقة المفترضة للغارة، كما لم تسجل أيّ مستشفى في الجنوب وصول جثة تحمل هوية فتيحة أو مواصفات قريبة منها.
المفارقة الساخرة أنّ بعض الصفحات التي روّجت للخبر هي ذاتها التي كانت قبل سقوط الأسد البائد تنشر له صوراً قديمة من مزرعة بشار الأسد في حمص، حيث كان فتيحة يتباهى بتعذيب المدنيين والتصوير مع جثثهم، في مشهد يلخّص أبشع فصول الإجرام الطائفي في الحرب السورية.
من هنا، هذه الإشاعة لم تُولد صدفة، بل صُنعت بوعيٍ كامل من داخل الدائرة الضيقة لفتيحة للهروب من الملاحقة القضائية، فمع زيارة وزير الخارجية السوري إلى بيروت وطرح ملف تسليم المجرمين، بات الخطر قريباً، والحلّ الوحيد أمام “المطلوبين” هو إعلان موتٍ افتراضي يحميهم من التسليم أو الملاحقة.
وقد سبق لفصائل وشخصيات مشابهة أن لجأت لأسلوب “الموت الوهمي” أو “الاغتيال عبر اللايف” لتضليل السلطات وكسب الوقت، هكذا يتحوّل “الاغتيال” إلى استراتيجية هروب، واللايف إلى تابوتٍ رقمي يُدفن فيه المجرم مؤقتاً حتى تهدأ العاصفة. والمضحك أو المبكي أنّ موت مقداد فتيحة على الورق قد يكون أكثر حياةً من أيّ عدالةٍ تنتظر تطبيقها في بيروت أو دمشق.
المجرمون الأحياء والأموات.. العدالة المعلّقة
عندما تعجز الدول عن تحقيق أو تنفيذ العدالة، تعمل الإشاعة وتتكفّل في ذات الوقت بكتابةِ الأحكام الزائفة، هذا ما حدث فعلاً بخبر اغتيال المجرم مقداد فتيحة، الذي بدا كأنه محاولة لغسل سجلّ دموي عبر إعلان موتٍ رمزيّ، يريح المجرم من الملاحقة، ويمنح المتواطئين فرصةً إضافية للهروب من العدالة.
فتيحة كغيره من مجرمي الحرب الذين دمّروا منازل السوريين وارتكبوا المجازر، إلا أنّ فتيحة كان له طريقة مختلفة في ذلك من خلال التباهي والمفاخرة في ذلك من خلال توثيق كل جرائمه ونشرها عبر صفحاته، ليصبح فجأة “شهيداً” لغارة غامضة، بينما عائلات ضحاياه لم تتلقَّ سوى خبر موته الافتراضي، هنا تتجلّى المفارقة المؤلمة: العدالة التي لم تستطع الإمساك به حيًّا، تُدفنه ميتاً على الورق، هذه ليست مجرّد روايةٍ إعلامية، بل مرآة لوضعٍ عربي مأزوم، حيث يتساوى المجرم والمظلوم في ضباب السياسة.
الحكومة السورية الانتقالية والتي لم تتهاون بمحاسبة المجرمين من خلال رفعها شعار “العدالة الانتقالية” تواجه اليوم اختباراً حقيقياً حول مدى ملكيتها لأدوات واقعية تمكنها من مجرمي الحرب الفارّين ومحاسبتهم أمثال فتحية؟
وهل ستكتفي بإدانات رمزية بينما يعيش العشرات من ضباط نظام الأسد البائد بحرية في لبنان وبلدان أخرى؟
يرى محلّلون أنّ غياب اتفاق قضائي واضح بين بيروت ودمشق، إضافة إلى حساسية التوازنات الطائفية داخل لبنان، جعلا ملف المجرمين السوريين هناك أشبه بـ”قنبلة موقوتة”.
مقابل ذلك، يؤكد الرأي العام السوري أنّ تحقيق العدالة يكمن بمواجهة حقيقيّة بشكل قانوني وعلني لا من خلال التحقق بالموت الغامض، فتفاصيل غياب محاسبة المجرمين يضعها أمام مأزقِ فتحِ بابٍ أمام “مجرمين ولكن بوجوه جديدة”، وما لم تتحرك الحكومة بجدّية، فستظل العدالة السورية الموعودة مجرّد شعار معلّق بين الحياة والموت، مثل فتيحة نفسه: لا يُرى إلا في صورٍ باهتة، ولا يُحاسب إلا في الخيال.
من الذي يُغتال فعلاً؟
في النهاية، إنّ شائعة اغتيال فتيحة هي ليست اغتيالاً للمجرم، بل هي اغتيالٌ للعدالة في الحقيقة، فهذه الكذبة الإلكترونيّة ليست مجرّد جريمة بل امتداد وسلاح جديد في معركة الإفلات من العقاب، فعندما تُبث الشائعات لموت جلّاد طغى بحق مدنيين عُزّل من خلال جُملٍ نُسميها “الموت على الورق”، فإنّ المُجرم هنا لا يهرب فقط من المحاكمة، بل يقومُ بسرقةِ آخرِ أمنية لذوي الضحايا وهي “لحظة الإنصاف المنتظرة”.
ما جرى يكشف أنّ أخطر ما يهدد سوريا الجديدة ليس بقاء المجرمين في الظلّ، بل اعتياد الناس على موتٍ بلا حساب، ودمٍ بلا محكمة، العدالة ليست ترفاً سياسياً، ولا بنداً ثانوياً بعد إعادة الإعمار، بل هي الأساس الذي تُبنى عليه الدولة والمواطنة والكرامة.
من دونها، سيبقى الماضي يزحف على الحاضر، وسيستمر كلّ فتيحةٍ في صناعة موته الوهمي ليحيا في خوف الآخرين.
قد لا نملك اليوم محاكمَ دوليّة، ولا منظومات قضائيّة مكتملة، لكنّنا نملك الذاكرة، والذاكرة لا تُشترى ولا تُقصف، وفي سوريا الجديدة، لم نعد نخاف من موت المجرمين، بل من حياتهم الطويلة في الظل.





