مدونات
“أتمنى أن أكون مخطئاً. حدسي يخبرني أنّنا سنتقاتل في 2025”.
بهذه الكلمات الصريحة حذّر الجنرال الأمريكي مايك مينيهان في مذكرة أرسلها إلى المفتشين العسكريين، بحسب ما نقلته وسائل إعلام أمريكية، في إشارة إلى احتمال اندلاع نزاع عسكري بين الولايات المتحدة والصين. ولم يكن مينيهان وحده من يرى أنّ المواجهة تقترب، إذ نشرت مجلة فورين أفيرز تقريراً يحذّر من أنّ خطر الحرب في مضيق تايوان مرتفع ويتزايد يوماً بعد يوم. وأشارت المجلة إلى تصاعد عدد المناورات التي تنفذها الصين حول الجزيرة، إلى جانب حملات إعلامية تهدف إلى تشويه صورة الرئيس التايواني الحالي “لاي”، ووصمه بأنّه معادٍ للوحدة الصينية وداعم لاستقلال تايوان.
تعرف تايوان رسمياً باسم جمهورية الصين، وتقع في شرق القارة الآسيوية. هي جزيرة صغيرة تبلغ مساحتها نحو 36 ألف كيلومتر مربع، يعيش على أرضها ما يقارب 23.3 مليون نسمة. تتموضع في قلب مضيق تايوان، بين الصين والفلبين وبحر الصين الجنوبي، ما يجعل موقعها الاستراتيجي محط أنظار القوى الكبرى.
ورغم صغر حجمها، تصنف تايوان ضمن أقوى 20 اقتصاداً في العالم، وسابع أكبر اقتصاد في آسيا، كما يصنفها البنك الدولي ضمن الاقتصادات مرتفعة الدخل، إذ تجاوز ناتجها المحلي الإجمالي 750 مليار دولار أمريكي عام 2024.
لكن السؤال الذي يشغل العالم هو: لماذا تعتبر تايوان مهمة إلى هذا الحد بالنسبة إلى الصين؟ وما علاقة الولايات المتحدة بها؟ ولماذا يحبس المجتمع الدولي أنفاسه كلّما أجرت الصين مناورات عسكرية في محيط الجزيرة؟
في القرن التاسع عشر، كانت تايوان تخضع لحكم سلالة تشينغ الصينية، آخر إمبراطورية صينية (1644–1911). لكن هزيمة الصين في الحرب مع اليابان عام 1895 أنهت هذا الوضع، لتتحول تايوان إلى مستعمرة يابانية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. عانت الجزيرة، مثل الصين وكوريا، من ويلات الاستعمار والفقر، إلى أن تبدل مصيرها جذرياً عام 1949، عندما خسر حزب الكومينتانغ الحرب الأهلية أمام الحزب الشيوعي الصيني. فانتقل زعيم الكومينتانغ إلى تايوان وأقام فيها نظاماً ديمقراطيًّا موازياً للنظام الشيوعي في البرّ الصيني.
منذ ذلك الحين، خاضت تايوان رحلة تطور فريدة. فقد تحوّلت من بلدٍ يعتمد على الزراعة والمساعدات الأمريكية إلى قوةٍ اقتصادية صناعية بحلول سبعينيات القرن الماضي. وصُنفت ضمن ما يعرف بـ**”النمور الأربعة”** إلى جانب كوريا الجنوبية وهونغ كونغ وسنغافورة، وهي الدول التي حقّقت نمواً اقتصاديّاً هائلاً خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين.
ورغم أنّ الصين تعتبر تايوان إقليماً متمرداً، فإنّ الجزيرة تتمتع بحكومةٍ منتخبة ونظام ديمقراطي مستقل. غير أنّ المجتمع الدولي لا يزال منقسماً حول الاعتراف الرسمي بها كدولةٍ ذات سيادة.
تقدّر الأونكتاد (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) أنّ 80٪ من حجم التجارة العالمية و70٪ من قيمتها يمران عبر البحر. ويُعد بحر الصين الجنوبي أحد أكثر الممرات البحرية ازدحاماً في العالم، إذ يمثّل نحو ثلث حجم التجارة العالمية، وتمرّ عبره بضائع ومواد خام تُقدّر قيمتها بنحو 5.3 تريليونات دولار سنوياً. كما يضم مناطق صيد غنية يعتمد عليها ملايين البشر كمصدر غذاء ورزق.
تحيط بهذا البحر ست دول رئيسية: الصين، تايوان، الفلبين، فيتنام، ماليزيا، وبروناي. وعلى مدى التاريخ، اندلعت نزاعات متكررة بين هذه الدول حول السيادة على جزر سبراتلي وباراسيل، بينما تزعم الصين أحقيتها بمعظمها.
ووفقاً لدراسة صادرة عن المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإنّ سعي الصين للهيمنة على البحر يرتبط بموقعه الجغرافي الرابط بين المحيطين الهادئ والهندي، وباحتمال احتوائه على موارد طاقة ضخمة من النفط والغاز. ولهذا تبني بكين جزرًا اصطناعية مزودة بمنشآتٍ عسكرية لتثبيت نفوذها في المنطقة. فامتلاك السيطرة على بحر الصين الجنوبي يعني التحكم في التجارة العالمية وسلاسل التوريد.
لكن الأهمية الجيوسياسية ليست وحدها ما يجعل تايوان محورية، بل أيضاً تفوقها التكنولوجي في مجال أشباه الموصلات، الذي يوصف بأنّه “نفط القرن الحادي والعشرين”.
في العقود الأخيرة، انتقلت المنافسة بين الدول من ميادين السلاح والاقتصاد إلى ساحات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وتعد أشباه الموصلات محور هذه المنافسة الجديدة، إذ تمثّل الركيزة الأساسية في تصنيع الأجهزة الحديثة.
عام 1987، تأسست في تايوان شركة غيرت وجه العالم: شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة، المعروفة اختصاراً بـ TSMC. كانت أول شركة تايوانية تُدرج أسهمها في بورصة نيويورك عام 1997، وهي اليوم تنتج نحو 60٪ من رقائق العالم، و90٪ من الرقائق الأكثر تقدماً. تدخل هذه الشرائح في صناعة الهواتف الذكية مثل آيفون، والحواسيب المحمولة، والسيارات الكهربائية، وأجهزة الذكاء الاصطناعي. وتعد شركتا أبل وإنفيديا الأمريكيتان من أبرز عملائها.
هذه السيطرة التكنولوجية تجعل تايوان لاعباً لا غنى عنه في الاقتصاد العالمي، وتجعل من أيّ تهديد صيني ضدها أزمة تمتد آثارها إلى الأسواق، وسلاسل الإمداد، والأمن القومي الأمريكي نفسه.
في ضوء هذه المعطيات، يتضح أنّ تمسك الصين بتايوان ليس مجرّد قضية وطنية أو رمزية، بل خيار استراتيجي شامل يجمع بين الأمن، والاقتصاد، والهيبة التاريخية. فموقع الجزيرة الحيوي، وتفوقها الصناعي في الرقائق الإلكترونية، وأهميتها في سردية “الوحدة الوطنية الصينية”، كلّها عوامل تجعل من المستحيل على بكين التخلي عنها.
ومع ذلك، يبقى السؤال معلّقاً:
هل يشهد العالم انفجاراً سياسيًّا أو عسكريًّا في مضيق تايوان؟ أم أن التوتر سيبقى في حدود الردع المتبادل والمصالح المشتركة؟
ربما وحده التاريخ هو من سيملك الإجابة النهائية.

