مدونات
منذ أن انطلقت الحرب بين القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023؛ دارت عدد من المعارك بالتزامن مع المواجهات الميدانية. كان على رأس هذه المعارك الحرب الإعلامية. كانت المعركة الإعلامية أولى المعارك التي تخسرها القوات المسلحة السودانية، في مقابل تفوق وسيطرة الخط الإعلامي لقوات الدعم السريع.
استطاعت قوات الدعم السريع، مستفيدة من مقدراتها المالية والدعم الخارجي، أن تنشر دعايتها في الإعلام الإلكتروني، ومواقع التواصل الاجتماعي. فقد كشف معمل دي إف آر الرقمي، التابع للمجلس الأطلنطي، عن شبكة تضليل قوامها 900 حساب على موقع إكس ( تويتر سابقاً) تقوم بالترويج لدعاية قوات الدعم السريع، و تقوم بتمجيد قائدها محمد حمدان دقلو الشهير ب”حميدتي”.
في المقابل قامت قوات الدعم بالسيطرة على المؤسسات الإعلامية التي من شأنها أن تدعم القوات المسلحة السودانية، أو لا تروج لدعاية الدعم السريع على أقل تقدير. يظهر هذا بسيطرة قوات الدعم السريع على مباني الإذاعة والتلفزيون بمنطقة أم درمان، حيث تبث عدد من القنوات شارتها من هناك، منذ الساعات الأولى للحرب مما غيب عدداً مقدراً من القنوات والإذاعات. لم تسلم الصحافة والإعلام المقروء من هجمة قوات الدعم السريع؛ فقد أحكموا قبضتهم على منطقة المطابع بوسط الخرطوم حيث يتم طباعة الصحف السياسية، وتوجد بها مقرات الصحف السياسية؛ مما أدى لاحتجاب الصحافة المطبوعة عن الظهور.
ومع استمرار القتال، تبدو المعركة الإعلامية غير متكافئة وتميل لصالح قوات الدعم السريع، لكن قبل الوصول لأسباب ميل هذه الكفة لقوات الدعم السريع -إعلامياً- نحن بحاجة للمرور على دور الحروب الإعلامية في تحقيق المكاسب السياسية بالسودان، ومن ثم النظر لكيفية تصاعد وتطور الخطاب الإعلامي لقوات الدعم السريع، قبل أن نختم بأسباب تفوق الدعم السريع في الحرب الإعلامية، ودور إهمال الإعلام الرسمي في تحقيق ذلك.
” المرتزقة”: كيف قضى نميري على أخطر محاولة انقلابية
واجه نظام جعفر نميري (1969-1985) معارضة شرسة من القوى السياسية في الفترة بين عامي 1971-1976، حيث شهدت هذه الفترة ثلاث محاولات انقلابية، وانتفاضة قادها طلاب جامعة الخرطوم. لكن أخطرها، و آخرها كذلك، كانت المحاولة الانقلابية التي قامت بها قوات الجبهة الوطنية في الثاني من تموز/ يوليو عام 1976. أسندت قيادة المحاولة لضابط متقاعد يسمى محمد نور سعد، بينما كانت غالبية القوات المنفذة للعملية من عضوية الأحزاب المنضوية تحت لواء الجبهة الوطنية ( حزب الأمة، الحزب الاتحادي الديمقراطي، الإخوان المسلمين).
رغم سيطرة القوات على المؤسسة العامة للمواصلات السلكية واللاسكلية، و مباني الإذاعة والتلفزيون؛ جعل سوء الترتيبات بين الأطراف المشاركة العملية خاسرة. وقد كانت معظم القوات المشاركة من عناصر حزب الأمة ذي الثقل التاريخي بغرب السودان، حيث تتداخل القبائل السودانية مع دول الجوار، و تربطها أواصر قرابة مع بعضها البعض قبل أن تضع الدول الاستعمارية في القرن العشرين الحدود المتخيلة للفصل بين هذه المجتمعات. مستفيداً من هذا التداخل، علاوة على أن العمليات العسكرية انطلقت من ليبيا، أطلق نظام نميري حملة إعلامية ضد منفذي المحاولة الانقلابية مفادها أن هؤلاء مرتزقة أجانب. أغلقت هذه الدعاية الباب أمام أي فرصة لتأييد هذه المحاولة الانقلابية من قبل عناصر القوات المسلحة الرافضة لسياسات نميري، بل وخلقت رفضاً شعبياً للمحاولة الانقلابية التي لا زالت معروفة عند عامة الناس ب“أحداث المرتزقة” و نجح نميري، رغم الغضب الشعبي الكامن ضد نظامه وسياساته الاقتصادية، أن يجعل الشعب في صفه بسبب الدعاية الإعلامية.
الحركة الإسلامية: دروس مستفادة
عمل الإسلاميون بعد التوقيع على المصالحة الوطنية عام 1977 على تمكين كوادرهم وتأهيلها في ملفي الإعلام والاقتصاد، كما أشار المحبوب عبدالسلام في كتابه عن الحركة الإسلامية. وقد كان للحركة الإسلامية وعرابها، د. حسن الترابي، نظرة بعيدة المدى في التحكم بالإعلام، وتوجيه الرأي العام وتأليبه. وقد آتت هذه البذور أكلها عندما جاءت فترة الديمقراطية الثالثة (1986-1989)، واستطاع الإسلاميون بفضل دعايتهم و إعلامهم أن يكسبوا أكثر من خمسين دائرة في الانتخابات النيابية. و واصلت الجبهة الإسلامية حصد ثمارها في هذه الفترة؛ فقد أطلقوا عدداً من الصحف مثل الراية وألوان وغيرها تجاه خصومهم السياسيين ومعارضيهم، ولم يسلم ضباط القوات المسلحة من سهامهم؛ مما دفع بعض الضباط لمقاضاة جريدة الراية لتشويهها سمعتهم واتهامهم بالعمالة؛ وقد كسب الضباط الدعوى. لقد نجحت الجبهة الإسلامية في تسميم الفضاء العام إبان تلك الحقبة، بالتزامن مع توقف الدعم الحكومي عن الصحف الرصينة مثل: الأيام، والصحافة مما أثر على عملهما سلباً.
ولعل الصحافة والإعلام المتمرسين هما من قادا الحركة الإسلامية لتضليل العالم أجمع بهوية انقلاب الإنقاذ، للحد الذي دفع السفير المصري بالخرطوم محمد الشربيني، ممثل أحد أكبر الدول المعادية للإسلام السياسي، للترويج للنظام في دول الخليج. ولم يكشف أمره إلا بعد ستة أشهر. وبعد أن أدخلت الإنقاذ الناس المساجد، ودخلت السوق، في إشارة للتحرير الاقتصادي الذي تبنته الإنقاذ، تراجع التأثير الإعلامي لها. لم يكن لحكومة الإنقاذ أن تساير تطور مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني، حالها كحال بقية الأنظمة التي اجتاحتها انتفاضات الربيع العربي، لكن إهمال الإعلام الرسمي للدولة، وتمويل الإعلام عبر رجال أعمال المؤتمر الوطني، أثر على جودة و مقبولية الإعلام الرسمي، بل صار أقل جذباً للناس. من المؤكد أن هذه القنوات التابعة لعضوية المؤتمر الوطني، أو رجال الأعمال المقربين منه ما كان لتكون أداة ضد النظام، لكنها منشغلة بحسابات الربح والخسارة، بعيداً عن تقديرات الإعلام الرسمي. وعزف الكادر الإعلامي الكفء عن الإعلام الرسمي ذي العائد القليل، نحو القطاع الخاص حيث الوضع المادي أفضل، وفرص التطور والارتقاء لساحات الإعلام العربي أكثر سهولة.
الإطاحة بالبشير: بوابة التلميع لقائد قوات الدعم السريع
عقب انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 2018، والتي أطاحت بنظام البشير ( 1989-2019)، تشكل واقع جديد في الساحة السودانية. إضافة للقوى المدنية السياسية، والقوى الشبابية التي قادت الحراك الشعبي لأربعة أشهر، شكلت المكونات العسكرية أحد أهم أضلاع المشهد. وقد كان القوى العسكرية متكونة من أجهزة الأمن الرسمية (القوات المسلحة، الشرطة، وجهاز الأمن) بالإضافة لقوات الدعم السريع التي تم تشكيلها في العام 2013، لمكافحة التمرد بالسودان. و ترقى قائده الحالي، محمد حمدان دقلو المراتب والمناصب حتى وصل إلى رتبة الفريق و قيادة قوات الدعم السريع دون أن يترقى وفق سلم القوات النظامية، أو يتخرج من الكلية الحربية.
بعد الإطاحة بالبشير، في الحادي عشر من نيسان / أبريل 2011، تشكل المجلس العسكري من قادة الأجهزة الأمنية ليملأ الفراغ الدستوري لحين الوصول لاتفاق سياسي مع القوى المدنية. بدت مصالح المكون العسكري متطابقة؛ فهم يريدون أن يحدوا من تأثير المدنيين في الواقع الجديد، وألا يمسوا امتيازات القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. كان هذا طموح المكون العسكري ككل، لكن محمد حمدان دقلو وضع نصب عينيه هدفاً أكبر هو السلطة. و ما كان له أن يبرز في ثوب الحاكم المستقبلي دون أن يلمع صورته بعد سجلات الانتهاكات التي ارتكبتها قواته في دارفور خلال سنوات التمرد والحرب، والتي تتكرر اليوم في كل المدن التي تحضر فيها هذه القوات.
وقد قام بخطوات عملية لتحسين هذه الصورة، مثل رفضه للانصياع لأوامر البشير قبيل الإطاحة به، و من ثم اعتذاره عن المشاركة في المجلس العسكري الذي أعلن عنه وزير الدفاع الفريق أول عوض ابن عوف، باعتباره يضم قادة الإسلاميين مثل وزير الدفاع و رئيس هيئة الأركان الفريق كمال عبدالمعروف، و المعروفة بميلها للتيار الإسلامي. ولأن دقلو نشأ في كنف الإسلاميين، فقد وعى درس الإعلام جيداً، واشترى الصحف ورعى البعض لتحاول تلميع صورته و تعككس ما قام به من أجل التغيير، وما كان له أن يعتمد على الإعلام الرسمي الضعيف، والمهمل ليوصل رسالته.
وفي بحث المجلس العسكري عن القبول، و ظناً من القادة العسكريين أن الهدف واحد أوكلت هذه المهمة لدقلو. لكن دقلو الذي يبحث عن تلميع صورته ما كان ليكتفي بالإعلام الداخلي، فانطلق نحو الخارج، صوب شركة علاقات عامة كندية لتحسين صورته وصورة المجلس العسكري. فتح تعامله هذا الباب على مصراعيه أمام آفاق جديدة في الإعلام، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، التي لعبت دوراً محوراً في الإطاحة بالأنظمة. وأصبحت قوات الدعم السريع تمتلك عدداً من الشبكات على مواقع التواصل الاجتماعي، للتأثير على الرأي العام. و في الفترة بين عامي 2019 – 2023، نمى الدعم السريع مقدراته الإعلامية و خلق أذرعاً إعلامية بمواقع التواصل الاجتماعي تتبنى خط قوات الدعم السريع وخطابها.
فقد كشفت شركة ميتا في أيلول/سبتمبر من العام 2021 عن شبكة تضم مئات الصفحات و الحسابات الشخصية المجموعات على موقعي فيسبوك و انستاقرام تروج للدعم السريع و تلمع صورة قائده. كانت هذه الشبكة تحظى بمئات الآلاف من المتابعين. وقد كشف موقع بيم ريبورتس السوداني في مطلع العام 2022 عن شبكة مماثلة تستهدف تحسين صورة الدعم السريع، وتلميع قائده باعتباره شريكاً للاتحاد الأوروبي في عمليات مكافحة الهجرة. في المقابل ركنت القوات المسلحة إلى الاعتماد على الإعلام التقليدي، وما يقوم به دقلو مجملاً لتحسين صورة العسكر، رغم التباين في المصالح الذي بدأ يطفو منذ نهايات العام 2021.
استمرار الحرب: تواصل الهزيمة
إن الشبكة التي تم الكشف عنها بعد ثلاثة أيام من اندلاع الحرب، كانت قد نشطت بعد توقيع الاتفاق الإطاري في كانون الأول/ديسمبر من العام 2022، والتي أبدى فيه محمد حمدان دقلو اعتذاره عن المشاركة في الانقلاب الذي وقع في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر للعام 2021. وقد تزايد هذا النشاط قبيل اندلاع الحرب بأسبوعين، و روجت هذه الشبكة لأن عدو السودانيين هو جيش ” الكيزان“، وهو اللفظ المتداول بين السودانيين للإشارة للإسلاميين، وأن الدعم السريع ليس عدونا، بالإضافة لتعليقات متكررة عن دعوات ليصبح “حميدتي“، اللقب الذي يطلق على محمد حمدان دقلو، رئيساً للسودان.
وقد بدأت الحرب الإعلامية فعلياً بالتزامن مع تحركات الدعم السريع العسكرية؛ فقد بدأت شبكات الدعم السريع الإعلامية والأطراف المتحالفة معها من قوى سياسية وغيرها، للترويج بأن هنالك طيران عسكري مصري بقاعدة مروي شمالي السودان، وهو ما يمثل خطراً وتهديداً على قوات الدعم السريع. و استطاع الدعم السريع بفضل إغراقه لوسائل التواصل والإعلام بخطر الطيران المصري، أن يجعل الناس تتساءل لماذا يوجد طيران مصري في مروي، بدلاً أن تسأل كيف يحرك الدعم السريع آلياته و قواته شمالاً دون تنسيق أو ترتيب مع القوات المسلحة السودانية- وهو في العرف العسكري تمرد.
ورغم أن لرئيس هيئة الأركان، الفريق محمد عثمان الحسين لقاء تلفزيوني، مع قناة خاصة، في أواسط العام 2021 يشرح فيه أسباب تعميق التعاون العسكري مع الجانب المصري، ومشدداً على الجانب الاقتصادي الذي يحد من خيارات الجيش السوداني؛ مما يجعل مصر خياراً ممتازاً نظراً للقرب الجغرافي، وقلة الكلفة الاقتصادية؛ لكن أحداً من الإعلام الرسمي، أو إعلام القوات المسلحة لم يرجع لهذا اللقاء ليدحض رواية الدعم السريع.
بهذه الأفضلية الإعلامية، استطاعت قوات الدعم السريع أن ترسخ دعايتها في أذهان الناس، بدءاً بالترويج لتهديد الطيران المصري، لأن الحرب بدأها الجيش، و مروراً باتهام القوات المسلحة بالخضوع للإسلاميين، وها هي الآن تتبنى خطاباً يروج لمقاتلة منسوبي تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام ( داعش) والإرهابيين بصفوف القوات المسلحة، في المقابل بقيت القوات المسلحة في خانة رد الفعل الذي أضعف من موقفها، وزاد الأمر سوءاً قلة كفاءة الكادر الإعلامي، والجهل بتكتيكات الإعلام الحديث.
وقد كان التلفزيون القومي الذي عاد للعمل من بورتسودان يستند في مواده الإعلامية على ما يبثه الناشطون الرافضون للدعم السريع، دون أن يستوثق القائمون على أمره من مصداقية هذه المواد، أو يقوم بتنسيقها، ناهيك أن يعد مادة أصيلة تدحض خطاب الدعم السريع و دعايته. فقد أعلن التلفزيون القومي قبل أسابيع عن برنامج ” خيوط المؤامرة” والذي يكشف وجود يوسف عزت الماهري، مستشار قائد قوات الدعم السريع، بمباني التلفزيون القومي يوم الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023 ( يوم اندلاع الحرب) وهو يحاول أن يبث بيانات داعمة لتحرك الدعم السريع العسكري. أغلب الظن أن الرواج الذي وجدته المقاطع الدعائية، كانت أعلى تأثيراً من البرنامج نفسه عندما تم بثه.
ورغم أن بعض منسوبي القوات المسلحة، و بعض الفاعلين والناشطين يقومون بمحاولة سد هذه الفجوة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها مجهودات فردية غير منسقة، بلا هدف ستراتيجي، ويغلب عليها الحماسة والرغبة في تطمين الناس، وتقع كثيراً في فخ المعلومات غير المضبوطة مما يفقدها المصداقية والقبول عند الناس. في المقابل، ورغم أن الدعم السريع لا ينشر الحقائق، بل يزيفها، لكنه يمتاز بالتنظيم، وهو ما يجعل حملاته الإعلامية أكثر تأثيراً في الرأي العام، ولعل حالة الهلع التي استطاعت خلقها قوات الدعم السريع بأخبار السيطرة على مدينة سنار أبلغ مثال. كلما امتدت الحرب زاد الفارق الإعلامي من التأثير السلبي على القوات المسلحة، رغم أن الأمر قد يكون مختلفاً على الأرض.
خاتمة
مما سبق، يتضح الدور المحوري الذي بات يلعبه الإعلام، و أن إيكال مهمة الدفاع عن الدولة ومؤسساتها لجهة خاصة غير مؤسسات الدولة، على المدى الطويل، يؤدي للإضرار بالدولة ومؤسساتها. وأن الإنفاق على الإعلام وتطويره أكثر نفعاً، مما يوفره عدم الصرف على الإعلام. وأن المصالح الموضوعية بين طرفين، تطغى عليها المصالح الذاتية، ولو بعد حين.