مجتمع

سوريات يزرعن الحياة وسط الألغام

أكتوبر 25, 2025

سوريات يزرعن الحياة وسط الألغام

كل صباح ترتدي فاطمة حاج طه (33 عاماً) من مدينة إدلب سترتها الثقيلة الواقية وتضع الخوذة المعدنية على رأسها، وتتوجه نحو الحقولِ والأراضي المزروعة بالألغام والذخائر غير المنفجرة، باحثة بكلّ إصرارٍ عن بقايا الموت.

 

فاطمة أمٌّ لطفلين، وعن عملها تقول: “أودع أولادي قبل ذهابي في مهمة نزع الألغام، لا يدفعني سوى إحساسي بواجب المشاركة في تأمين المناطق وإنقاذ الأهالي والأطفال، أغرسُ في أبنائي قيم النضال، وأعدّهم ليكونوا حماةً للوطن والحرية”.

 

وتضيف: “هذا العمل لم يفرض علي بل اخترته بملء إرادتي، وتحديت كلّ الظروف والمخاطر لأساهم في حماية الأرواح البريئة”.

 

وتكمل: “نحن نساهم في الكشف عن مخلفات الحرب، لا نرفع سلاحاً في وجه أحد، بل نتوجه نحو المناطق الملغومة، نمسك بأيدينا أدوات الكشف، لنواجه الموت الذي يتربص بكلّ شبرٍ في سوريا، حيث ما تزال الألغام ومخلفات الحرب التي خلفها النظام السابق تحصد الأرواح بشكلٍ يومي.”

 

وأضافت أنّ من واجب النساء المشاركة في إزالة الألغام بسبب الحاجة الكبيرة، وقلة الفرق المدربة، وكثرة المساحات الملوثة بها في سوريا، مؤكدة أنّ بطء عمليات نزع الألغام، دفع كثيراً من السوريين للقيام بذلك بأنفسهم، إذ يقوم متطوعون غير مدرّبين ويفتقرون إلى المعدات والخبرة بمحاولات إزالة الألغام في أحيائهم بأيديهم العارية، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة، ويفقد الكثيرون منهم حياتهم.

 

شجاعة فاطمة ليست استثناء بل هي إحدى النساء السوريات اللواتي اخترن العمل في خطوط المواجهة مع الموت، لتطهير الأراضي السورية من مخلفات الحرب ونشر الوعي المجتمعي.

 

وتنتشر مخلفات الحرب في عموم مناطق سوريا التي كانت ساحة حرب لأكثر من 13 عاماً، فلا يكاد يمر يوم على سوريا إلا وتفقد فيه إحدى العائلات فرداً منها أو أكثر إثر انفجار لغم أو قذيفة، نشرها نظام الأسد، لكون المناطق التي شهدت انفجار ألغام وذخائر كانت خاضعة لسيطرته، قبل تحرير سوريا في 8 كانون الأول من عام 2024.

 

 

في ميدان إزالة الألغام أيضاً تعمل حلا السلوم (29 عاماً) من مدينة حلب شمال سوريا ضمن فرق الدفاع المدني المتخصصة في التعامل مع الذخائر غير المنفجرة، وعن ذلك تقول: “رغم المخاطر العالية، نواجه تحديات تشمل نقص الخرائط الدقيقة لمواقع الألغام وغياب التوعية المجتمعية.”

وتشير أنّ وجود النساء في فرق إزالة الألغام مهم جداً، فهو يساعد في توعية كافة شرائح المجتمع من الأمهات وكبار السن والأطفال.

 

وتبين السلوم أنّها تزاول هذا العمل عن رغبة حقيقية وقناعة، حيث فضلت مواجهة مخاطر الألغام الأرضية وحماية مجتمعها، كبادرةٍ إنسانية أولاً، خاصة أنّ المناطق التي تعمل فيها محاطة بالحقول الملغمة، ويحتاج معظم سكانها للتوعية بالمخاطر المميتة للأجسام المتفجرة، بسبب عدم درايتهم الكافية حول طبيعة التعامل مع هذه الأسلحة المدفونة تحت الأرض.

 

وتعترف السلوم بأنّها واجهت مصاعب كثيرة في بداية الأمر، بينها رفض المجتمع لعمل النساء بمهنة كانت حكراً على الرجال، إلى جانب ضرورة ارتداء الحذاء ثقيل الوزن، ووضع الخوذة على الرأس وحمل جهاز الكشف، ثمّ الاضطرار في بعض الأحيان للمشي مسافات طويلة، وتحديد المنطقة الآمنة التي ستقف عليها قبل أن تبدأ في عملية البحث عن المتفجرات، لكن “لن تثنينا الصعوبات عن عزمنا، فكلّ تلك المتاعب تلاشت لاحقاً ولم تكسر إرادتنا” بحسب تعبيرها.

 

كان الطفل وائل الرسلان (13 عاماً) يعمل مع أخيه الأصغر في رعي الأغنام بالقرب من منزله، حين عثر على قذيفةٍ غير منفجرة داخل حفرة صغيرة، وعن ذلك يتحدث قائلاً: “بعد عودتنا إلى منزلنا الواقع على أطراف مدينة معرة النعمان، عثرت على القذيفة، وعرفت بأنّها تشكّل خطراً كبيراً نتيجة المعلومات التي قدّمها لنا الفريق النسائي الذي زار مدرستنا منذ بداية العام الدراسي، لذا قمت بإخبار والدتي بوجود القذيفة، وقامت بدورها بالاتصال بالفريق الذي جاء على الفور وأمن المكان.”

 

وبحسب “هيومن رايتس ووتش” إنّ النزاع المستمر منذ أكثر من عقد في سوريا تسبب بتلوثٍ واسع النطاق بالألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب، مما يُشكّل عائقاً رئيسياً أمام العودة الآمنة وجهود إعادة الإعمار، حيث تسبب انتشار المتفجرات الناجم عن الأسلحة المستخدمة في مقتل 249 شخصاً على الأقل، بينهم 60 طفلاً، وإصابة 379 آخرين منذ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.

 

كما وثّق تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان عن الألغام في سوريا -الصادر بتاريخ 31 ديسمبر/ كانون الأول عام 2024- مقتل ما لا يقل عن 3521 مدنياً نتيجة انفجار الألغام الأرضية، منذ آذار/ مارس 2011 وحتى نهاية عام 2024، من بينهم 931 طفلاً و362 سيدة، بالإضافة إلى 7 من كوادر الدفاع المدني، و8 من الكوادر الطبية، و9 من الكوادر الإعلامية. كما أشار التقرير إلى إصابة ما لا يقل عن 10 آلاف و400 مدني بجروحٍ متفاوتة، منهم عدد كبير بحاجةٍ إلى أطرافٍ صناعية وسلسلة طويلة من عمليات إعادة التأهيل والدعم النفسي.

 

حسن الجابر (39 عاماً) قائد فريق لإزالة الألغام من الدفاع المدني السوري يقول ل سطور: “المناطق التي نعمل بها في قرى ريف إدلب تنتشر فيها المخلفات الحربية والذخائر الخطيرة من صواريخ راجمة وقنابل يدوية وألغام ورؤوس قنابل مدفعية، تتوزّع في المنازل ومحيطها وفي الشوارع والأراضي الزراعية.”

ولفت إلى أنّ مخلفات الحرب ما تزال تشكّل هاجساً مرعباً للأهالي، خاصة العائدين إلى قراهم وبلداتهم في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام السابق، مشيراً إلى أنّ عشرات المدنيين سقطوا ضحايا بسبب الألغام، في حين أُصيب المئات بجروحٍ بليغة وإعاقات دائمة.

وأشار الجابر أنّ فرق مسح مخلفات الحرب في الدفاع المدني السوري حددت 141 حقلاً ونقطة تنتشر فيها الألغام، في المناطق المدنية وبالقرب من منازل المدنيين وفي الحقول الزراعية والمرافق، وعثرت على العشرات من حقول الألغام التي تحتوي على الألغام المضادة للآليات والمضادة للأفراد المحرمة دولياً، والتي تسببت حالات انفجارها بمقتل وإصابة العشرات من المدنيين خلال الأيام السابقة، وباتت تشكّل خطراً يهدد الحياة ويقوض عودة المدنيين لمنازلهم والعمل في مزارعهم بمناطق واسعة في سوريا.

 

وتبدأ أولى خطوات الإزالة، بحسب الجابر، بجمع الأدلة عن تلوث منطقة ما وتسجيل إحداثيات هذه المخلفات ورسم خرائط المناطق الملوثة، والمناطق المشتبه بخطورتها وتحديد أولويات الإزالة بالنسبة للمجتمعات المحلية من حيث تأثيرها على حياتهم اليومية أو سبل كسب عيشهم.

ويؤكد أنّ الإمكانيات والخبرات الموجودة في المنطقة حالياً غير كافية للتعامل مع حجم المخاطر التي تشكلها مخلفات الحرب، مبيناً أنّ الأمر يتطلب جهوداً دولية للمشاركة في عملية تفكيك الألغام ونزعها في سوريا، وجهود فرق هندسية دولية متخصصة وسنوات من العمل حتى تتخلص الأراضي من هذا الخطر المميت الذي يقتلنا يوماً بعد يوم.

 

ويتابع: “الكثير من الأراضي لم يتجرأ الأهالي على الاقتراب منها لخطورتها خاصة في مناطق التماس الحدودية بين مناطق فصائل المعارضة وقوات نظام الأسد سابقاً”.

 

ويلفت الجابر أنّ عملية التوعية من أهمّ إجراءات مواجهة خطر الذخائر غير المنفجرة، حيث تقيم الفرق المتخصصة في الخوذ البيضاء جلسات توعية من مخاطر الألغام والذخائر غير المنفجرة للمدنيين لزيادة الوعي المجتمعي من خطر هذه الذخائر، وركزت على خطر الذخائر غير المنفجرة، وضرورة الابتعاد عن الأجسام الغريبة، وأهمية إبلاغ فرق الدفاع المدني السوري المختصة عنها فوراً.

 

التلوث بالألغام الأرضية ومخلفات الحرب والذخائر غير المنفجرة من أبرز التحديات التي تواجه السوريين، وتؤثر بشكل مباشر على حياة المدنيين وتعيق إعادة الإعمار، لذا برزت نساء لا يعرفن الانكسار بجهودهن الجبارة، اخترن العمل في الإزالة والتوعية، يدفعهن الواجب الإنساني، إلى مصارعة الموت لحماية غيرهن من المخاطر.

شارك

مقالات ذات صلة