آراء
منذ حرب يوليو تموز ٢٠٠٦، يجابه الجيش الإسرائيلي مأزقًا مركبًا بين دَيدَنِه العسكري الذي بُني على: ١) التفوق التكنولوجي ٢) الحسم الخاطف في ٣) أرضٍ مفتوحة، وبين واقعٍ ميدانيٍ جديدٍلا يشبه معاركه السابقة: حرب المدن.
في غزّة كما في جنين، تتحطّم الأسطورة على جدران الإسمنت، وتتعطّل المنظومة “الشبكية” التي طالما تغنّت بها المؤسسة العسكرية كذراعٍ للهيمنة والسيطرة. فهنا، لا تعمل الأقمار الاصطناعية ولا طائرات الاستطلاع كما خُطّط لها، لأنّ الحرب الشبكية تفقد معناها حين تُختبر في أزقةٍ مكتظة وأنفاق مظلمة.
الحرب الشبكية.. حين يتعطل “الرابط” حرفيا
اعتمدت إسرائيل خلال العقد الأخير مفهومًا يُعرف بـ Network-Centric Warfareأي الحرب المعتمدة على الربط الفوري بين وحدات المشاة والدبابات والطائرات والمسيرات عبر شبكة رقمية متكاملة.
لكنّ التجربة الميدانية في غزّة أظهرت أنّ هذه الشبكة تنهار بمجرّد دخول القوات إلى مناطق القتال القريب. فالإشارات تُحجب، والطائرات المسيّرة تُسقط أو تُشوَّش، والجنود يُضطرون إلى العودة لوسائل بدائية كالاتصال اللاسلكي القصير أو الإشارات اليدوية.
وفق تحقيقٍ نشره موقعBreaking Defense في ديسمبر ٢٠٢٣، فقد فقدت وحدات اللواء “جولاني” الاتصال الإلكتروني الكلي لمدة تجاوزت ٤٨ ساعة أثناء اجتياح حيّ الشجاعية، ما أدى إلى مقتل ٢٧ جنديًا بينهم قادة ميدانيون بعد أن أخطأت طائرة “هيرمس ٤٥٠” إسرائيلية فيتحديد موقعهم بسبب تشويشٍ محلي.
وبذلك تحوّلت التكنولوجيا من درعٍ واقٍ إلى عبءٍ عملياتيٍّ قاتل.
القوات البرية.. جيش بلا احتكاك
منذ خاض الجيش الإسرائيلي معاركه البرية الشاملة بقصد الغزو في لبنان عام ١٩٨٢، وبعدها في اجتياحاته في غزّة والضفة، أعادت القيادة العسكرية لعقود هيكلة قواتها البرية على نحوٍ يُعلي من شأن التفوق الجوي والاستخباري، ويُهمل مهارات الاشتباك البري المباشر.
تراجع التدريب على القتال من مسافة صفر، وتحوّل الجيش إلى قوة تعتمد على الروبوتاتوالطائرات من دون طيار لإدارة ساحة المعركة “عن بُعد”.
في حرب المدن، لا وجود لـ“البُعد الآمن”.
فالاشتباك يُدار من مسافة أمتارٍ قليلة، في أنفاقٍ ضيقة وأحياءٍ متشابكة. وهنا، تفقد الدبابة“ميركافا 4” قيمتها، وتتحوّل وحدات النخبة مثل “غولاني” و“ناحال” إلى أهدافٍ سهلة لمقاتلين يعرفون الأرض شبرًا بشبر. وفق بيانات معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، فإنّ ٦٢% من خسائر الجيش في غزّة بين أكتوبر٢٠٢٣ ويناير٢٠٢٤ وقعت في اشتباكاتٍ قريبة، داخل بيوتٍ أو أزقةٍ ضيقة، أيّ في بيئةٍ لم يُدرّب الجنود على التعامل معها فعليًا.
غزة: المقبرة التكتيكية
تحوّلت غزّة خلال العقدين الأخيرين إلى مختبرٍ استراتيجيٍ لعجز القوات البرية الإسرائيلية.
فمنذ عملية “الرصاص المصبوب“ عام ٢٠٠٨ مرورًا بـ“الجرف الصامد”٢٠١٤ وصولًا إلى “السيوف الحديدية“ ٢٠٢٣، تكرر النمط ذاته:
اجتياح محدود، خسائر مرتفعة، انسحاب تدريجي، ثم إعلان “تحقيق الأهداف”.
في معركة الشجاعية مثلًا، كشفت تقارير مجموعة B’Tselem الحقوقية وشهادات جنود إسرائيليين أمام لجنة “أورون شاحم“الداخلية أنّ المقاومة الفلسطينية استخدمت تكتيك “الدوائر المتتالية” — أيّ ضرب الدبابة أو المصفحة في الشارع الأول، ثمّ كمينٍ ثانٍ في الشارع الخلفي حين تأتي وحدة الإنقاذ.
بهذه الطريقة، فُقدت إحدى عشرة ناقلة جند مدرعة في أقل من يومٍ واحد، رغم غطاءٍ جويٍّ كثيف.
وفي خان يونس، واجهت وحدات “ناحال”و“المظليين”مقاومةً وصفتها صحيفة هآرتس بـ“الأكثر فتكًا منذ حرب لبنان”، حيث قُتل ٢١ جنديًا في كمينٍ داخل مجمعٍ سكني واحدٍ فقط في يناير٢٠٢٤.
هذه الأرقام ليست فقط دليلًا على الفشل التكتيكي، بل على انهيار الثقة بين القيادة الميدانيةوالجبهة الداخلية التي بدأت تُدرك أنّ الحرب بلا نهايةٍ ولا جدوى.
الإنهاك النفسي.. جيش يتهرّب من الأرض
المعركة في المدن لا تُقاس بالمساحات بل بالثبات.
ولهذا، أظهرت دراسات نُشرت في دورية IDF Studies أنّ أكثر من ٣٨% من الجنود الذين خدموا في غزّة عام ٢٠٢٣ طلبوا إعفاءً من الخدمة الاحتياطية اللاحقة، بسبب ما وصفوه بـ“الضغط النفسي المستمر وعدم الثقة بالقيادة”.
الصور المتداولة لجنودٍ ينهارون بالبكاء أو يرفضون العودة للقتال لم تكن مجرّد حالات فردية؛ بل انعكاسًا لانكسارٍ أعمق في الروح القتالية.
الجيش الذي تربّى على فكرة “الهجوم الدائم” صار أكثر ميلًا إلى التحصّن والانكماش الدفاعي،وهو ما وصفه أحد ضباطه المتقاعدين في مقابلة مع “يديعوت أحرونوت” بقوله:
“نحن لم نعد نغزو.. نحن نحتمي بالتكنولوجيا لأننا خائفون من البشر.”
مأزق اللا عقيدة العسكرية
منذ بن غوريون وحتى أيزنكوت، ارتكزت العقيدة العسكرية الإسرائيلية على ثلاثيةٍ واضحة: نقل المعركة إلى أرض العدو، الحسم السريع، وتفوق الردع.
لكن حرب المدن عطّلت الأضلاع الثلاثة جميعًا:
• لم يعد ممكنًا نقل المعركة إلى أرضٍ “أخرى”، لأنّ ساحة الصراع صارت على حدود المستوطنات نفسها.
• لم يتحقق “الحسم السريع”، فالحرب تحوّلت إلى استنزافٍ زمنيٍّ واقتصادي.
• وتآكل الردع بعد أن أثبتت المقاومة قدرةً على ضرب الجبهة الداخلية يوميًا رغم كل الطبقات الدفاعية.
محاولات تحديث العقيدة عبر إدخال “الذكاء الاصطناعي في إدارة النيران” أو “الروبوتات القتالية” لم تغيّر شيئًا من جوهر المأزق، لأنّ جوهر الأزمة إنسانيٌّ لا تقني.
الجنود يفتقدون الإيمان بعدالة معركتهم، والمجتمع الإسرائيلي لا يتحمل فاتورة حربٍ مفتوحة.
ففي استطلاع أجرته قناةKAN الرسمية في فبراير ٢٠٢٤، قال ٦١%من الإسرائيليين إنّهم “لايثقون بقدرة الجيش على تحقيق نصرٍ بريٍّ واضح”.
المقارنة التاريخية.. من بيروت إلى خان يونس
في بيروت ١٩٨٢، واجهت إسرائيل أول اختبارٍ حقيقيٍّ في حرب المدن ضد مقاتلي منظمةالتحرير.
استغرقت السيطرة على غرب المدينة أكثر من شهرٍ رغم التفوق العددي والناري الساحق.
بعد أربعة عقود، تكرّر المشهد نفسه في غزّة — فقط بتكنولوجيا أحدث ونتائج أكثر إخفاقًا.
فالميدان لم يتغيّر بقدر ما تغيّرت الذهنية القتالية.
الجيش الذي كان يملك طاقة المبادرة بات أسير “الخوف من الخسائر البشرية”، وهو ما يُسمّيه باحثوRAND Corporation بـ“متلازمة المجتمع ما بعد الصدمة” (Post-Heroic Society)،حيث يصبح الحفاظ على الأرواح أهم من تحقيق الأهداف الاستراتيجية.
وبينما تحوّلت المقاومة إلى قتالٍ شبكيٍّ مرنٍ يُدار من تحت الأرض وبأقل الإمكانات، ظلّ الجيش الإسرائيلي يطارد “أشباحًا” على الشاشات دون أن يفهم أن المعركة الحقيقية تحدث في الفراغات التي لا تراها الأقمار الصناعية.
الفاتورة السياسية.. جيشٌ يُرهق الدولة
كلّ إخفاقٍ بريٍّ في غزّة أو جنين يُترجم مباشرة إلى أزمةٍ سياسية داخل إسرائيل.
من احتجاجات عائلات الجنود، إلى انقساماتٍ حادة بين القيادة العسكرية والحكومة، وصولًا إلى دعواتٍ متكررة لإعادة النظر في “العقيدة الأمنية” ذاتها.
في مارس ٢٠٢٤، كتب المحلل العسكري عاموس هرئيل أنّ “الحروب البرية لم تعد خيارًا لإسرائيل بل عبئًا وجوديًا”، مشيرًا إلى أنّ استمرار الاعتماد على سلاح الجو لا يمكن أن يحقّق انتصارًا على حركةٍ ميدانيةٍ تنتشر في المدن كما ينتشر الظل.
وبذلك، دخلت إسرائيل مرحلة الردع العكسي: أيّ أنّ الخوف من خسائر الحرب البرية صار يقيّد قرارها السياسي، فتُردع هي نفسها عن المبادرة.
الخاتمة: حين تسقط الأسطورة على أعتاب الطين
لا يُهزم جيشٌ بالتكنولوجيا، بل بالإنسان الذي لا يخاف الموت.
وهذه هي معادلة غزّة وجنين وبيروت التي لم يفهمها صُنّاع القرار في تل أبيب حتى اليوم.
فكلّما طوّرت إسرائيل جيلًا جديدًا من الدبابات أو الطائرات المسيرة، طوّرت المقاومة جيلًا جديدًا من الإرادة الميدانية، يلتصق بالأرض ويعرف أنّ النصر في حرب المدن لا يُقاس بعدد الصواريخ بل بقدرة الجندي على البقاء في بيتٍ واحدٍ دون أن يُهزم.
في النهاية، تكشف تجربة حرب المدن أنّ إسرائيل— رغم امتلاكها واحدةً من أكثر الترسانات تطورًا في العالم عاجزة عن احتلال حيٍّ واحدٍ دون خسائرٍ فادحة، وعاجزة أكثر عن تفسيرهذا الفشل أمام مجتمعٍ يزداد انقسامًا وخوفًا.
لقد أرادت أن تبني جيشًا بلا احتكاك، فأنشأت جيشًا بلا روح.
ومن رحم هذا التناقض تولد هشاشتها الكبرى: دولةٌ تملك السلاح، ولا تملك القدرة على استخدامه.





