مجتمع

بين وطنين.. حكاية السوريين العائدين

أكتوبر 24, 2025

بين وطنين.. حكاية السوريين العائدين

الكاتب: أحمد الضاهر

 

بعد عقدٍ ونصف من النزوح والهجرة، بدأت أفواجٌ من السوريين منذ انتصار الثورة السورية في 8 كانون الأول / ديسمبر 2024 رحلة العودة إلى مدنهم وقراهم. إلا أنّ هذه العودة المحفوفة بأمل لقاء الجذور، اصطدمت بواقع مغاير تماماً، كاشفةً عن تحديات مركّبة تتجاوز البعد الجغرافي إلى صراع الهوية والقدرة الاقتصادية. فالمغتربون يعودون اليوم إلى وطن لم يعد كما غادروه، حاملين معهم “وطناً ثانياً” نشأ في سنوات الغربة الطويلة.

 

صدمة الهوية: الغربة المزدوجة وصراع الأجيال

تجربة ريم الحسن (39 عاماً)، العائدة من ألمانيا إلى ريف حمص، تُجسّد هذا التناقض. تقول ريم بمرارة: “تصورت أنّي سأعود إلى الحياة التي تركتها، لكنّني وجدت نفسي غريبة في وطني. الناس تغيّروا، المكان أصبح مختلفاً، وحتى أنا تغيّرت بسبب سنوات الاندماج في مجتمعٍ آخر”. لقد أثمرت سنوات الغياب الطويلة عن بناء شبكات اجتماعية وعملية مستقرة في بلدان اللجوء، وهذا التكوين الجديد للعائلة يُفضي إلى شعورٍ مزدوج؛ حنين إلى الماضي السوري، وارتباط عميق بالاستقرار المادي والاجتماعي الذي وفّرته الغربة. هذا التناقض هو ما يُطلق عليه علماء الاجتماع “الغربة المزدوجة”، حيث يصعب الانتماء الكامل لأيّ من المكانين.

 

تزداد حدة الصدمة لدى الجيل الثاني من العائدين. فالأطفال والمراهقون الذين نشؤوا في بلدان الاغتراب يجدون أنفسهم اليوم في مواجهةٍ تعليمية قاسية. بعد إتقانهم لغات أجنبية، باتوا مُجبرين على الدراسة باللغة العربية التي لا يتقنونها جيداً، ممّا يُعيق تحصيلهم الدراسي ويُعمّق شعورهم بالاغتراب داخل المدارس السورية. هذا التحدي التعليمي، إلى جانب الصدمة الثقافية، يضع جيلاً كاملاً بين مطرقة المنهاج الدراسي وسندان الهوية اللغوية.

 

الحاجز الاقتصادي: البيت الذي لا يتسع للجميع

بالتوازي مع الصراع الهوياتي، تمثّل الأزمة الاقتصادية الخانقة في الداخل السوري العقبة الأبرز أمام إعادة الاندماج. فالعائلة التي كانت تعيش في بيتٍ واحد قبل عام 2011، لم يعد بيتها كافياً لاستيعاب العائدين مع أبنائهم المتزوجين حديثاً، بعد أن تضخمت الأسر وتعددت فروعها.

 

يشرح أبو نزار، العائد من لبنان إلى ريف دمشق، هذا المأزق قائلاً: “عدنا بعد 12 سنة، ووجدنا أن البيت العائلي لم يعد يتسع لنا. الأبناء تزوجوا ولكل منهم عائلة، ونحتاج الآن لبيتين أو ثلاثة. تكاليف الترميم والبناء صارت خيالية، والدخل المحلي لا يغطي الحد الأدنى من المعيشة اليومية”.

 

يمتد هذا الواقع الصعب إلى الجانب النفسي والاجتماعي أيضاً. فبعد التعود على بيئة خدمية وقانونية منظمة ومستقرة، يواجه العائدون تحدياً كبيراً في التأقلم مع الواقع السوري من حيث تدهور الخدمات والضغوط المعيشية التي غيّرت طبيعة العلاقات الاجتماعية.  يقول الدكتور محمود خضور، الباحث الاجتماعي: “العودة بعد هذا الزمن الطويل هي عملية إعادة اندماج معقدة، وليست مجرّد استئنافٍ لحياة قديمة. المغترب يعود بقيم ونظام حياة مختلف، ويصطدم بوطن تغيّر بنيوياً واقتصادياً”.

 

 

العائدون.. رأس مال بشري لبناء المستقبل

ومع كلّ هذه التحديات، تكمن في تجربة العائدين فرصة حقيقية للمستقبل. فالعائدون لا يجلبون معهم الحنين وحده، بل يجلبون أيضاً الخبرات والمعارف والمهارات المكتسبة من أنظمة عمل واقتصاديات أكثر تطوراً.

 

منذ كانون الأول/ ديسمبر 2024، تشير تقديرات منظمات محلية إلى أنّ أكثر من 250 ألف سوري بدؤوا بالعودة التدريجية من بلدان اللجوء، خصوصاً من لبنان وتركيا وأوروبا، في محاولة لإعادة بناء حياتهم في وطنهم الأم.

 

إنّ الإصرار على العودة، رغم كلّ الصعاب، يؤكّد أنّ الجذور أقوى من الغياب، وأنّ إرادة بناء المستقبل المشترك ما زالت قائمة. فالعائدون اليوم يمثلون رأس مال بشري حيوي يمكن أن يسهم في ترميم النسيج الاقتصادي والاجتماعي إذا ما توفرت لهم البيئة الداعمة والمشاريع التنموية التي تستوعب خبراتهم وتطلعاتهم.

 

وبين وطنين يعيشان في الذاكرة والقلب، يسير السوريون العائدون على خيطٍ رفيع بين الحنين والواقع، يحاولون من خلاله أن يصنعوا وطناً جديداً يستوعب ماضيهم وتطلعاتهم معاً.

شارك

مقالات ذات صلة