سياسة
في خطوة دبلوماسية لها ما بعدها، التقى رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة السودانية، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، بكبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مُسعد بولوس، في العاصمة المصرية القاهرة، الأسبوع الماضي، في ثالث لقاءاتهما خلال أشهر. هذا اللقاء، الذي يأتي في سياق جهود معالجة الأزمة السودانية المتصاعدة، يكشف عن تعقيدات المشهد السياسي والعسكري في السودان، ويطرح تساؤلات حول إمكانية تحقيق اختراق حقيقي في ظل التحديات الداخلية والإقليمية.
أكّد البرهان خلال اللقاء على موقف السودان الثابت بعدم التفاوض تحت الضغط أو شروط الإذعان، مشدداً على قوة الجيش السوداني وقدرته على ملاحقة ودحر ميليشيا الدعم السريع في ولايات كردفان ودارفور، عقب هزيمتها في ولايات سنار والنيل الأزرق والجزيرة والخرطوم والنيل الأبيض.
هذا الموقف يعكس استراتيجية واضحة للحكومة السودانية تعتمد على القوة العسكرية كأداةٍ لاستعادة السيطرة على الأراضي السودانية، مع رفض أيّ دورٍ سياسي مستقبلي للميليشيا، التي ارتكبت جرائم الحرب وشردت السودانيين، ولا تزال تفعل ذلك في مدينة الفاشر التي تشهد مواجهات عنيفة.
البرهان أظهر من خلال حديثه إلى مُسعد صلابة عسكرية ورفض التنازلات، إذ أوضح عدم التزام الميليشيا باتفاق جدة، الذي نص على خروجها من الأعيان المدنية، إلا أنّ الجيش السوداني أخرجها منها بالقوة الضاربة، والآن يطاردها في كردفان ودارفور. وأوضح البرهان أن فشل المبادرات السابقة، يعكس هشاشة المبادرات الدبلوماسية في ظل استمرار الدعم الخارجي للميليشيا. وهو ما يقودنا إلى السؤال الأبرز، كيف يمكن للإمارات أن تكون جزءاً من المبادرات الإقليمية للسلام بينما تدعم بسخاء ميليشيا الدعم السريع؟
التقارير الدولية، بما في ذلك تقارير خبراء الأمم المتحدة وتحقيقات صحف عالمية مثل “نيويورك تايمز وواشنطن بوست والغارديان”، قدمت أدلةً دامغة على تورّط الإمارات في دعم ميليشيا الدعم السريع. صور الأقمار الصناعية وتقارير استخباراتية كشفت عن رحلات جوية متكررة من الإمارات إلى تشاد لنقل المرتزقة والأسلحة والمسيّرات الاستراتيجية إلى الميليشيا. هذه الاتهامات، التي دعمها أعضاء في الكونغرس الأمريكي، أثارت جدلاً واسعاً حول دور الإمارات في إطالة أمد الحرب السودانية.
موقف البرهان الواضح في دعوته الدول الإقليمية إلى (إطلاق حمام السلام بدلاً من ذبحه) يحمل رسالة مباشرة إلى الإمارات، التي تجلس على مقعد اللجنة الرباعية للسلام بجانب مصر والسعودية والولايات المتحدة. هذا التناقض يضع المبادرات الإقليمية أمام اختبار مصداقية، حيث يصعب تصوّر نجاح مفاوضات سلام تشارك فيها دولة متهمة بالتدخل المباشر في الصراع، ويعتبرها السودان دولة عدوان.
من جانبه، أكد مسعد بولوس التزام الولايات المتحدة بدعم إعادة إعمار السودان، مشيراً إلى رغبة شركات أمريكية كبرى في الاستثمار في السودان بعد تحقيق السلام. هذا التصريح يعكس نهجاً اقتصادياً يتماشى مع أسلوب بولوس وترامب، اللذين يفضلان ربط التسويات السياسية بالمكاسب الاقتصادية. فالسودان، بموارده الضخمة من المعادن النادرة مثل (اليورانيوم)، والذهب والأراضي الزراعية، والثروة الحيوانية، إضافة إلى موقعه الجيوسياسي على البحر الأحمر، يمثل فرصة استثمارية واعدة. وهنا يريد بولوس الاستثمار في لعبة المصالح الدولية، وهو الباب الواسع الذي يستطيع أن يقنع به ترامب بالدخول من خلاله.
(مبادرة ترامب، التي نجحت في إيقاف القتال في غزة، تُستخدم كقاعدة لتعزيز الاستقرار في المنطقة، بما في ذلك السودان)، هذا ما قاله وزير الخارجية السوداني محيي الدين سالم حول تطابق وجهات النظر بين البرهان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. كما تؤكد مصر والسعودية دعمهما لوحدة السودان وسلامة أراضيه، مع الاعتراف بمجلس السيادة كحكومة شرعية. هذا الدعم يعزز موقف البرهان في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، لكنّه لا يحل إشكالية الدور الإماراتي.
يدرك البرهان جيداً القيمة الاستراتيجية للسودان، سواء من الناحية الاقتصادية أو الجيوسياسية. لقاءاته المتكررة مع بولوس تشير إلى محاولةٍ ذكية للاستفادة من الدعم الأمريكي لتعزيز موقف الجيش السوداني في مواجهة الميليشيا. ومن المرجح أن يسعى البرهان إلى تحقيق مكاسب دبلوماسية وعسكرية من خلال هذا الحوار، مع التركيز على القضاء على الميليشيا نهائياً، مستفيداً من الضغط الأمريكي على الأطراف الإقليمية الداعمة لها، وأعتقد أنّ المباحثات السودانية الأمريكية ستتوسع قريباً لتشمل مختلف الطاقم الحكومي لوضع إطار عام لخارطة الطريق، وقد نرى رحلات ماكوكية دبلوماسية وأمنية بين واشنطن وبورتسودان، وفقًا لما يُخطط ويناور له البرهان.
لكن هذه المناورات ليست خالية من المخاطر، فاستمرار الصراع العسكري قد يعيق الجهود الدبلوماسية، خاصة إذا لم يتم التعامل مع الدور الإماراتي بشكلٍ مباشر وواضح. كما أنّ الاعتماد على الدعم الأمريكي قد يضع السودان أمام شروط جديدة، سواء اقتصادية أو سياسية، قد لا تتماشى مع مصالح الشعب السوداني على المدى الطويل.
يواجه السودان تحديات معقدة تجمع بين الأزمات العسكرية والسياسية والإقليمية، ولقاء البرهان وبولوس في القاهرة يمثّل محاولة لتحقيق اختراق دبلوماسي. ومع ذلك، فإنّ نجاح هذه الجهود يتطلب مواجهة صريحة للأدوار الإقليمية المتناقضة، خاصة دور الإمارات، وتحقيق توازن بين المصالح الاقتصادية والسياسية للأطراف المعنية. البرهان، بمناوراته الدبلوماسية، يسعى لتعزيز موقف السودان، لكن الطريق إلى السلام يظل شائكاً في ظل استمرار الدعم الخارجي للميليشيا وتعقيدات المشهد الإقليمي.
والأهمّ هو الوصول إلى تسويةٍ سياسية سودانية – سودانية تمهّد الطريق لبناء السودان وإعادة مجد حضاراته القديمة بسواعد أبنائه، مرتكزاً على شعبه لا على الخارج.
*صحفي ومحلل سياسي سوداني




