فكر
دولٌ عديدة فشلت في تطبيق العدالة الانتقالية بشكلٍ جدّي، واقتصرت المحاسبة على مئات الأشخاص، لكن سوريا الجديدة أمامها فرصة كبيرة لتظهر كطفرة وحالة استثنائية، والعدالة الانتقالية بذاتها والتوسع فيها ليس دعوةً للثأر والانتقام ولا محاولةً لخلق انقسام بين المجتمع السوري بل فرصة نحو صياغة عقد اجتماعي وبلسمة الجراح، ولا ينظر لها كعبءٍ سياسي بقدر ما ينظر لها كفرصةٍ أمام رئاسة الجمهورية لتنفيذ ما عجز عنه الآخرون ووضع آليات عملية موضوعية يستلهم منها العالم.
هذه فرصة لصناعة سلام مستدام، والتحوّل من العدالة الانتقامية أو الانتقائية إلى العدالة الانتقالية ونقل المحاكمة من الشوارع إلى قاعات المحاكم الوطنية لتكون سوريا الجديدة نموذجاً يُحتذى به، وغير ذلك دعوة غير مباشرة لسلك مسار العدالة الانتقامية.
قد يبدو لكلّ متابعٍ أنّ الدولة تتجنب الحديث عن العدالة الانتقالية في وقتٍ لم تحكم فيه سيطرتها على كلّ البلاد استناداً لحساباتٍ سياسية معينة، إذ يتزامن مع مفاوضات بينها وبين قسد واستمرار سيطرة المجموعات المسلحة المرتبطة بحكمت الهجري على محافظة السويداء، لكن في اللحظة المناسبة التي تكشف فيها الدولة عن المقابر الجماعية الرئيسية المتضمنة عشرات آلاف الجثث التي ورد ذكرها في تقرير رويترز، قد تفجّر ردة فعل غير مسبوقة تبتز جراح السوريين وتعيد تدويل المأساة السورية ولفت أنظار العالم إليها، إذا أرادت الدولة ذلك وأحسنت إدارة الموقف وتوجيهه واستثماره، ولا أظنّ هذا ممكناً قبل السيطرة على كلّ شبرٍ من البلاد، حينها تكون المحاكمة والمحاسبة تستند إلى جرحٍ قديم جديد لا يمنحها غطاءً قانونيًّا فحسب، بل تعاطفاً مع الضحايا وإشادة بالجهود، وحتى تحين اللحظة المناسبة لا خيار آخر سوى احتواء الرأي العام وإظهار مدى التفهم لأوجاع الناس وتجنب استفزازها عبر تصريحات غير مدروسة، تماماً كما حدث في المؤتمر الذي عقدته اللجنة العليا للسلم الأهلي، وأثار غضب عامة الناس فسارع الرئيس أحمد الشرع لتطويق المشكلة بمرسومٍ إعلان تأسيس الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية.
تتكامل جهود 4 ركائز مناطة بملفّ العدالة الانتقالية، تتسلسل هرميًّا من رئاسة الجمهورية إلى المجلس التشريعي ثمّ الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والهيئة الوطنية للمفقودين، وبالتعاون والتنسيق مع الجهات المعنية بحقوق الإنسان، للاستفادة من قاعد البيانات وسجلات الجرائم الموثّقة، وتحديد الفئات الرئيسية الأكثر أولوية بالمحاكمة والمحاسبة، وقد ورد ذكرها في البرنامج الانتخابي للمرشح لعضوية مجلس الشعب المحامي فهد الموسى وقسّمها إلى 10 فئات، كما يلي:
وبالعودة إلى وصل التسوية الذي مُنح للعناصر والأفراد من قائد إدارة العمليات العسكرية آنذاك السيد أحمد الشرع، وقد أكّد فيه أنّه لا يعفيهم من الحقّ الخاص، وهنا يأتي دور المجلس التشريعي لسن تشريعات تتناسب مع الحالة السورية، وتنصف الضحايا والمتضررين وتعجّل بردّ الحقوق والمظالم، وقد تشابهت الأوجاع في كلّ المحافظات.
يتغاضى الناس عن الحالة الراهنة بوصفها ضرورة وواقعية سياسية طارئة، ويتفهمون صعوبة الموقف وسير الدولة على حبل رفيع بين جبلين وتربص أطراف معادية بها، لكن استمرارها بعد التمكين المنشود في الأرض غير مقبول، ولا ينظر لها كواحدة من مناقب النصر بل من خوارمه إن كانت، ولا أعتقد بوجودها.
إنّ وجود المجرمين في أوساط المجتمع يهدّد أمن السوريين جميعهم، بمن فيهم حاضنة النظام التي بدأت تطالها أعمال انتقامية بهدف الإضرار بحكومة الرئيس أحمد الشرع عبر عرقلة جهودها في تكريس السلم الأهلي أو محاولتها دمج من لم تتلطّخ أيديهم بالدماء في الشأن العام، وأستذكر حادثة اغتيال المرشح لعضوية مجلس الشعب في طرطوس “حيدر شاهين”، كدليل يؤكد توسع دائرة الخطر، بسبب طيش المجرمين بعد أفول زمانهم المظلم الذي أطاحت به أمجاد عملية ردع العدوان، وخسارتهم النفوذ والسيطرة التي صارت الآن دافعاً للانتقام من الجميع، وينظرون لكلّ فردٍ في المجتمع كعدوّ.
إنّ العدالة الانتقالية قاعدة صلبة يُبنى عليها السلم الأهلي وتؤسّس لعيش مشترك حقيقي ولا تتعارض مع السلم الأهلي بل تتكامل معه، ولا تعني الاقتصار على القصاص من كلّ مجرمٍ فحسب، فحفظ السردية وتوثيقها جزءاً من العدالة حتى لا تُهدر وتطمس الحقيقة ويفتح باب التدليس فيقتل الضحية مرتين، مرّة برصاص العدو ومرّة برصاص الصديق، ومشاركة ذوي الضحايا في المحاكمات وحماية الشهود وتقديم الشفافية للرأي العام عبر موقع إلكتروني يعلّل كلّ براءةٍ أو إدانة، وتخليد أسماء الضحايا بقاعدة بيانات وتطبيق عقوبات النفي والعزل السياسي لرجالات النظام بما فيه منع التصويت في أيّ استفتاءٍ شعبي وإلزامهم بتقديم اعتذارٍ علني، وإعادة الأموال المنهوبة من خزائن الشبكات الاقتصادية التي أسستها أسماء الأسد إلى خزينة الدولة وزج اللصوص في السجون، وتأسيس نصب تذكاري للضحايا في المقابر الجماعية الكبيرة، كلّ ذلك بمجموعه يجسّد العدالة الانتقالية بشكلها الصحيح، يرسم صورةً حضارية ويبرز قدرات الدولة، ويضع أول حجر أساس لبناء سوريا الجديدة، دولة يسود فيها العدل والقانون، وجامعة لكلّ الطوائف السورية على أساس المواطنة والتعايش والسلام.