مدونات

حين لا تُرجِع الأحلام ما سلبته الأقدار

أكتوبر 21, 2025

حين لا تُرجِع الأحلام ما سلبته الأقدار

 

كم مرّةٍ أيقظتنا الأحلامُ على وجعٍ نائم، وأعادت إلينا وجوهًا حسبناها غابت في الأفق البعيد؟
كم ضحكنا في المنام بدموعٍ لم تجفّ بعد، وعانقنا من أحببنا بقلوبٍ تعرف أنّ اللقاء مؤقّت؟
الأحلامُ يا صديقي — وإن رقّت — خادعة؛ تضع على جراحنا لمسةَ شفاءٍ من سراب، ثمّ تتركنا في الصباح وجوهَنا مبلّلةً بالحقيقة، وقلوبُنا مثقلةً بما لا يُقال.

أقول، وربّما كان القولُ في بعض مواضعه وجعًا يُتعب أكثر مما يُخفّف، ويُوقظ في القلب ما حاول النسيانُ دفنه منذ سنين. أقول، لا لأنّ الكلام راحة، بل لأنّ الصمت امتلأ، ولأنّ في صدري كلامًا لو بقي أكثر لاحترق القلب من وجعه.

أقول كما يقول من لم يجد سبيلًا إلى الخلاص إلا بالبوح؛ كأنّ الحروفَ صلاةٌ خفية تُرفع إلى السماء، ترجُو أن تُعيد شيئًا مما سلبته الأقدار، أو تُسكّن في الذاكرة صوت الحنين.
فما القولُ في جوهره إلّا دمعةٌ تاهت بين الكلمات، وزفرةٌ اختبأت بين السطور.

ثم أسأل — وأنا أعلم أنّ السؤال عبثٌ جميل —:
ألا تُرجِع الأحلامُ ما كُحلت به المُقل؟
هل يمكنُ لليلٍ أن يهبني وجهًا أطفأه النهار؟
هل تُعيدُ الرؤى من غابوا عن العينِ وبقوا في القلب؟

يا لعجب الأحلام!
كم تُشبه الزائرَ الذي يأتي في آخر الليل، يحمل بين يديه صورةَ من نحبّ، يُعيد ضحكتهم، همسهم، دفءَ أصواتهم، كأنّه يقول: ها قد رُدَّ إليك ما فقدت.
لكن حين نستيقظ، نجد المكانَ خاليًا، والسماءَ صامتة، والوجوهَ التي رأيناها قد عادت إلى الغياب الأبدي، كما لو أنّ الحلم كان سخريةً لطيفةً من القلب الذي صدّق.

الأحلامُ لا تُعيد المفقود، لكنّها تمنحنا مهلةً صغيرةً من الحياة؛ نعيش فيها الوهمَ كأنّه صدق، ونستنشق فيها دفءَ اللقاء كما لو كان حقيقة.
هي الرأفةُ التي يضعها الله في ليل الموجوعين، ليذوقوا طعمَ اللقاء وإن لم يلقَوا، ويشمّوا عبيرَ الفرح وإن لم يُمسكوا به.
غير أنّها رأفة مؤقتة، تنقلب في الصباح عذابًا مضاعفًا، حين يُدرك القلب أنّ ما كان دفئًا صار فراغًا، وأنّ اليد التي أمسكت بها الروح لم تكن إلا هواءً مرّ في الحلم.

الأحلام وعدٌ لا يُراد به الوفاء، ووهمٌ يُمنح كي لا نموت من الحقيقة دفعةً واحدة.
هي الضوء الذي نراه في آخر الممرّ، نركض إليه بكل ما فينا، فإذا بلغناه اكتشفنا أنّه سراب.
تُسكّننا لتُوجِعنا، وتُعيد لنا الوجوهَ لتسلبها، وتتركنا في منتصف الطريق بين الرجاء والفقد؛ لا نحن أحياء بما كان، ولا نحن قادرون على النسيان.

ويالذاكرة القلب، ما أظلمَها حين تتواطأ مع الحلم!
إنّها لا تُذكّرنا فحسب، بل تُعيدنا إلى لحظة الوجع الأولى، كأنّها تُريد أن نعيش الألم مرتين: حين وقع، وحين تذكّرناه في المنام.

يا ليت الأحلام تُنصفنا يومًا فتبقى على ما وعدت به!
لكنّها لا تفعل، لأنّها خُلقت لتُواسي لا لتمنح، ولأنّها جُعلت لتلطّف مرارة الخسارة لا لتردّ المسلوب.
هي رحمةٌ عابرة، وسرابٌ يُنقذنا من العدم لحظة، ثمّ يتركنا نغرق من جديد في يقظةٍ قاسيةٍ لا ترحم.

ولعلّنا — وإن أنكرنا — لا نملك إلا أن نلوذ بها.
فالإنسان مخلوقٌ ضعيف، يهرب من واقعه إلى وهمٍ يؤلمه، ويطلب من الخيال صدقًا لا يجده في الحقيقة، ويستعذب الوجع إذا جاءه بثوب الحلم.
هو يحيا بالوهم كما يحيا الظمآنُ برائحة الماء؛ يعلم أنّه لن يشرب، لكنّه لا يستطيع أن يُشيح بوجهه عنه.

 

تأمل في معنى الفقد والأحلام

ولعلّ الأحلام — في حقيقتها — ليست إلا ظلًّا من الحنين، وصورةً من القلب حين يفتقد نبضه القديم.
هي مرآةُ الذاكرة، حين تتجمّل لتخفي عنّا قبح الفقد، وتُظهر لنا وجهًا كان يومًا لنا، فصرنا له ذكرى.
إنّها تُنقذنا من الموت الكامل، لكنّها لا تُعيد الحياة.
تُسكّن الألم لحظة، ثم تُوقظه أشدّ ممّا كان، وتُرينا من البعيد ما لن نبلغه أبدًا.

فما أشدّ حاجة الإنسان إلى هذا الكذب الجميل الذي يسمّيه حلمًا!
هو لا يُخلّصه من واقعه، لكنّه يمنحه استراحةً صغيرةً من اليأس، يلتقط فيها أنفاسه قبل أن يعود إلى صراعه مع الفقد.
يُريه وجهَ من أحبّ، وصوتَ من غاب، قبل أن يُعيده إلى صمت الحقيقة من جديد.

وهكذا تظلّ الحياة سلسلةً من أحلامٍ تُداوي، ثمّ تجرح، ثمّ تمضي.
ويبقى في عمق القلب يقينٌ صامت،
أنّ ما مضى لا يعود،
وأنّ ما كُحلت به المُقل ذاتَ يومٍ،
قد صار الآنَ ظلّ ذكرى…
يُطلّ علينا من بعيد، كما يُطلّ الغروبُ على بحرٍ لا يعرفُ شروقًا بعده.

شارك

مقالات ذات صلة