Blog
الكاتب: محمد أديب عبد الغني
تغادر “رؤية حلب الكبرى” اليوم فضاء العناوين إلى ميدان الاختبار: خطواتٌ تشاركية تلتها مناقشة مؤسسية للخطة، وإشارات عملية تُنبئ ببدء مسارات قابلة للتتبّع. غير أنّ قيمة أيّ رؤية لا تُقاس ببريق اسمها، بل بقدرتها على التحوّل إلى عقدٍ حضاري مستدام يضع الإنسان قبل الصورة، ويُلزم الإدارة بقياسات دورية، ويجعل الحفاظ أداة تنفيذ لا شعاراً عابراً. ينطلق هذا المقال للإجابة عن سؤال محدّد: ما المتطلبات المؤسسية والتمويلية والخدمية اللازمة كي تتحوّل “حلب الكبرى” إلى مساراتٍ صلبة تثبت نفسها بالمنجَز قبل الخطاب؟
انبثقت “رؤية حلب الكبرى” من ندوةٍ تشاركية أواخر أيلول/سبتمبر 2025 في فندق الشهباء، أعقبتها مطلع تشرين الأول/أكتوبر جلسةٌ رسمية في مبنى المحافظة بحضور فريق الإعداد وخبراء محليين. هذا الانتقال من النقاش العام إلى قاعة القرار أخرج الفكرة من إطار العنوان إلى مسارات عمل قابلة للقياس، مدعومةً بمسارين واضحين:
في هذا الإطار تُقدَّم “حلب الكبرى” كمنظورٍ عمراني تنموي طويل الأمد لمدينة حلب ومحيطها: تحديث البنية التحتية والخدمات داخل الأحياء، وتأهيل المناطق المتضرّرة بما يعيد شروط العيش الكريم، وتنظيم التوسّع والإسكان بما يصون النسيج الاجتماعي ويوازن بين الحاجة والقدرة الاستيعابية، مع إنشاء فضاءات عامة خضراء تُحسّن الصحة الحضرية وتصل الأحياء ببعضها. ويتسع المنظور لربط المركز بضواحيه حركيًّا واقتصاديًّا وخدميًّا ضمن شبكة واحدة، مع التزام حماية التراث العمراني في المدينة القديمة عبر اشتراطات تصميم وتنفيذ واضحة لأيّ تدخل داخل الحوض التاريخي أو جواره. وتقوم الرؤية على نهجٍ تشاركي يُترجم إلى برنامج قابل للقياس على امتداد العقود، ويُحاكَم بقدر ما يتحقق على الأرض وما يُنشَر من مؤشرات منتظمة.
الرؤية ليست شعاراً عمرانيًّا ولا حزمة مشاريع متفرّقة، بل “عقدٌ حضاريٌّ مستدام” بين المدينة وأهلها؛ يربط الذاكرة بالمصلحة اليومية، ويجعل الخدمة معيار الكرامة، والحفاظ شرط الجمال، والشفافية طريق الثقة.
“الإنسان قبل الصورة” ليس زينةً لغوية، بل مبدأ لترتيب الأولويات من قلب الأحياء. تُقاس العدالة بأدواتٍ ملموسة تُنشَر دوريًّا: ساعات الكهرباء والماء الفعلية في كلّ حيّ، زمن الرحلة اليومية؛ نسبة الأعطال المغلَقة قياساً بما سجّله السكان؛ نصيب الفرد من المساحات الخضراء، ومسار الشكوى من التقديم إلى الإغلاق. حين تكشف البيانات فجوات بين الأحياء، تُقدَّم المناطق الأضعف في جداول الصيانة وتحسين النقل والإنارة والحدائق، ويُعلَن أثر التصحيح في التقرير التالي.
أمّا حماية التراث في المدينة القديمة فهي أداة تصميم مُلزِمة تُدار بوثيقةٍ معلَنة تضبط الارتفاعات والواجهات والمواد وأنماط الحركة، وتُلزم كلّ مشروع بمراجعة فنية مسبقة وإشراف مختص أثناء التنفيذ، وبروتوكول واضح للمواقع الحسّاسة كالساحات والأنصاب.
وتقتضي “الإدارة الواضحة” جهة محدّدة تتحمّل الملكية الكاملة للمسار بتفويض مكتوب وصلاحيات محدّدة وآليات قرار مُعلنة. يُستكمَل ذلك باجتماعٍ شهري داخلي للمراجعة الفنية والمالية، وتقريرٍ ربع سنوي علني بلغةٍ مفهومة يبيّن المنجَز والمتعثّر وأسبابه والتعديلات، مع جداول للقيم المرصودة والمصروفة، وآجال التسليم، وصور قبل/بعد، وخرائط توضّح مواقع العمل.
كما تتحوّل “قنوات الملاحظة والمساءلة” إلى مسارٍ حيّ: منصة رقمية تُصنَّف فيها الملاحظات حسب الحيّ ونوع الخدمة مع نشر ملخّص شهري لمسارات المعالجة، ومكتب ارتباط مجتمعي يتلقّى الحالات الحضورية وينقلها إلى فرق التنفيذ بمهلة استجابة محددة ويعود بخلاصة الإجراء. بذلك تصبح المشاركة مُدخلاً يعيد ترتيب الأولويات داخل الأحياء ويُرى أثره في التقارير.
و”إغلاق الحلقات بين التخطيط والتنفيذ والقياس” يعني أنّ البيانات تعيد توجيه الدفّة دوريًّا: تُحوَّل الموارد فوراً إلى الحيّ الأضعف عند ظهور فجوة واضحة، وتُعدَّل خطة الشهر التالي ويُعلَن التغيير وأثره المتوقع وتوقيت قياسه. وفي المواقع الحسّاسة تراثيًّا تُستكمَل معاينة موثّقة قبل البدء، ويُنشر سجلّ يومي مختصر أثناء التنفيذ، وتصدر شهادة فنية بعده تُثبت الالتزام بالاشتراطات وبروتوكول الأمان. وعند وقوع عثرة كما في ساحة سعد الله يُنشَر بيانٌ فني يحدّد السبب والمسؤولية والتعديل على البروتوكول، وتظهر نتيجة التعديل في مشروع تالٍ كدرسٍ مستفاد.
رغم انتقال “حلب الكبرى” من ندوة تشاركية إلى اجتماعٍ رسمي قدّم ملامح الخطة، ما يزال وعاء الحوكمة غير مُعرَّف على نحوٍ مطمئن. لم تُعلن بعدُ جهة قيادية بولاية محدّدة وتقارير دورية منشورة، رغم توفّر الغطاء المؤسسي الأولي. وفي هذا الفراغ برز اختباران سريعان:
الأول: حادثة ساحة سعد الله الجابري، حيث أظهرت المقاطع سقوط الجزء العلوي من «تمثال الشهداء” أثناء الرفع والنقل، وما أثارته من غضبٍ عام وأسئلة حول بروتوكولات الحفاظ وكفاءة التنفيذ في موقعٍ شديد الحساسية.
الثاني: موجة مواد ترويجية قدّمت “حزمة مشاريع” تميل للاستثمار والطرق الرئيسة والمناطق الصناعية، فيما بدت الأحياء الأشد تضرّراً خارج الاستهداف العاجل، بما يناقض مبدأ “الإنسان قبل الصورة” ما لم تُعلَن بالتوازي رزمة قصيرة الأجل داخل الأحياء بمؤشرات أثر قابلة للقياس.
يبدأ التحويل بإشهار كيانٍ إداري واضح لقيادة “حلب الكبرى” مع تحديث ربع سنوي قابل للتتبّع. ييسّر ذلك ضبط أولويات الأشهر الستة المقبلة، وربط مصادر التمويل بمشاريع محدَّدة ومقيسة الأثر، وتقديم “حزمة 180 يوماً” داخل الأحياء الأشد تضرّراً لردّ الانحياز الذي أوحته المواد الترويجية.
يشكّل ملفّ الكهرباء الاختبار الأول لصدقية المقاربة: تحويل الأرقام من أخبار متفرّقة إلى سلسلة قياسٍ مستقرّة عبر لوحةٍ شهرية تُظهر ساعات التغذية الفعلية حسب الأحياء، وزمن الاستجابة للأعطال، وتقدّم تأهيل المحطات والخطوط. ومع استقرار لغة القياس، تُبنى عليها قرارات التصحيح: إعادة هيكلة التقنين وتوجيه الجهود نحو الأحياء ذات العجز الأعلى.
بالتوازي، تغادر “التشاركية” قاعة الندوات إلى مسارٍ مؤسسي معلَن يُظهِر أثر الملاحظات في ترتيب الأولويات: قناة مفتوحة تُنشَر خلاصاتها ومآلات المقترحات، ومحاضر موجزة لجلسات موضوعية توثّق انتقال الرأي إلى قرار.
وفي ملف الحفاظ، تُستَصدر وثيقة نافذة تحدّد مستويات التدخّل ومعايير المواد والواجهات ومسارات الحركة، مع بروتوكول مُعلَن للمواقع الحسّاسة يضبط التوثيق وأساليب الرفع والنقل ومسؤوليات المقاول والاستشاري وإشراف المختصّين، ويُغلَق كلّ حادث بتقريرٍ فني يشرح السبب وخطوات عدم التكرار.
أمّا التمويل فهو حلقة الوصل بين الطموح والتنفيذ: لا يُقاس الانفتاح على الشركاء بعدد اللقاءات، بل بعدد الاتفاقات المقفلة التي تُعلن قيمتها، وجداول كمياتها، وآجالها، ومؤشرات أثرها. حين تُدرَج هذه الالتزامات في تقريرٍ ربع سنوي، تصبح المساءلة مبنية على ما أُنجِز لا على ما نوقِش.
“حلب الكبرى” ليست عنوان تجميل ولا خطة إسكان معزولة، بل فرصة لصوغ عقدٍ حضاري مستدام يوازن بين ضرورات العيش اليوم وحراسة الذاكرة غداً. ما إن تُقدَّم كفلسفة تُعلي الإنسان، وتقيس العدالة مكاناً وزماناً، وتحوّل الحفاظ والشفافية إلى أدوات إنفاذ، حتى تنتقل من وعدٍ مُلهِم إلى برنامجٍ مُلزِم خاضع للمساءلة.
صحيح أنّ الإطلاق وفّر غطاءً مؤسسيًّا وأنّ التوضيحات الخدمية فتحت أول حقل للقياس وأن الانفتاح الخارجي مهّد للشراكات؛ غير أنّ اختبارات الأسابيع الأولى من حادثة ساحة سعد الله الجابري إلى فيديوهات “حزمة المشاريع” ذكّرت بأنّ المعيار هو ما يُنشَر ويُنجَز ويُقاس.
وعندما تُعلَن أمانة تقود المسار وتصدر تقارير ربع سنوية، وتُدار الخدمات بلوحات قياس علنية، وتُقنَّن المشاركة بقنواتٍ مرئية تُغلق حلقة الاقتراح والقرار، وتتحوّل الشراكات إلى اتفاقاتٍ مموّلة بمشاريعَ محدَّدة وآجال مُعلنة آنذاك فقط يصبح اسم “حلب الكبرى” مرادفاً لتحسين شروط العيش وصون الهوية معاً، مُبرهَناً بالأرقام قبل الصور، وبالإنجاز قبل الخطاب.

