“كان جلوس المصريين مع الإسرائيليين في خيمة واحدة للتفاوض سنة ٧٣ بعد حرب أكتوبر أمرا لا يُحتمل، شعر بالانكسار وضياع كل ما يؤمن به، القدس لم تعد على مرمى حجر، لم يحتمل انكسار حلمه، وأطلق النار على نفسه”. بهذا المشهد الحزين كانت نهاية الشاعر الأردني تيسير سبول طبقًا لدراسة شخصية عن الشاعر بعنوان “الشاعر القتيل”.
بذات الطريقة ولسبب مشابه، قام خليل حاوي الشاعر اللبناني الشهير بإطلاق النار على رأسه مع وصول الدبابات الإسرائيلية لمشارف بيروت يونيو ١٩٨٢، حاوي قضى فترته الأخيرة حزينًا خائفًا، كتب بعضًا مما كان يجول برأسه في رسالة “قد أستيقظ في أي صباح لأقرأ في الصحف أن لبنان قد تبخر، وأن أهلي لاجئين، أو أنهم قتلى أو في طريقهم للتشرد الأبدي، هذا الخوف يمنعني من النوم، مأساة فظيعة انتظارها أسوأ من وقوعها”.
ولكون هذا تصرف شعراء، فالسؤال التالي، ما جدوى الشعر في زمن الفاجعة؟ لطالما كان هناك تساؤل عن وظيفة الشعر في صورته المجردة، نشر الجمال وإعمال الخيال؟ شحذ الهمم والتعبير عن المشاعر؟ وإن كان هذا متاحًا في الأزمنة العادية، ما هي وظيفته في عصر الفواجع؟
أنني ما زلت أحلم
أفكّر بالحياة
كثيراً
أجهزُ الأحلامَ أكثر
أسقي ورد الشرفة
وأقرأ كتابي المفضل
أعد الطعام..
وهذا تماما ما أفعله..
ما تفعله الضحية قبل الرحيل حيدر الغزالي – شاعر من غزة – ٩ يونيو ٢٠٢٤
دار نقاش طويل بين الأوروبيين حول جدوى الشعر بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن قُتل ما يقرب من ٨٠ مليون إنسان، ما جدوى الكلام في ظل مأساة؟ هل سيعيد الشعر من رحلوا؟ ما دفع عالم الاجتماع الألماني تيودر أدورنو بعد انتهاء الحرب لقول عبارته الشهيرة في أحد مقالاته: “من البربرية كتابة الشعر بعد أوشفيتز” أو “لا شعر بعد أوشفيتز”، فكيف للجمل المقفاة والسجع أن يعبر عما حدث؟ وهل تستطيع الكتابة أن تضع حدًا للقاتل أو حتى أن ترسم ابتسامة على وجه القتيل؟ الإجابة بالقطع لا. آخرون عارضوه حينها وقالوا “بل يبدأ الشعر بعد أوشفيتز” بمنطق أن الحياة تمضي، وأن العالم دائمًا يمتليء بالشرور، ولابد من الشعر والنثر والفن للتعبير عن صوت الضحية، ولكن ما الفائدة من صوت الضحية إذا لم يحرك شيئًا؟
إلى الغد لا تأخذيني أيتها الحرب
ماذا سأصنع في صبيحة غد
يجىء بلا أصدقاء؟
غير أنه لا يجد شيئًا يدل على انتهاء الحرب
غير احتمال باهت:
أن تصدأ الدبابة الأخيرة
أو يموت آخر الجنود.
ناصر رباح – شاعر من غزة – ٧ مارس
فلسطينيون كثر على منصات التواصل الاجتماعي بذات المنطق، يهاجمون سيل الصور ومقاطع الفيديو المنشورة يوميًا لجثث وأشلاء أطفال ونساء ورجال، هذه الصور التي يلتقطها من يلتقطها بداعي “الصرخة” وينشرها من ينشرها بداعي “الاستغاثة” وفي سبيل ذلك يكسرون الكود الأخلاقي المتعلق بحرمة جثامين الموتى، حتى تحولت منصات التواصل الاجتماعي العربية إلى صور أشلاء ودماء طوال الوقت، ورغم ذلك لا طائل، لا أحد يتحرك، ما جدوى صرخة لا يسمعها أحد؟
لم نعد نريد منكم شيئًا
فنظراتكم الباهتة
لن تمتد لتصنع لنا السلام
أنتم خارج المشهد تمامًا.. والعاصفة لن تهدأ هذا النهار
اذرفوا الدموع.
بإمكانكم السباحة مطولًا في ذلك الفضاء الغاضب
لكن من يقف خلف المنظار لن ينقذ الغريق.
حسام معروف – شاعر من غزة – ١ مارس ٢٠٢٤
في الحروب الماضية على غزة، كان الشعر العربي حاضرًا، كانت هناك مساحة لاستحضار أقوال محمود درويش وللاقتباس من أحمد مطر ومظفر النواب وأمل دنقل وغيرهم، كمحاولات لإيجاد التشابه بين حصار بيروت في جدارية درويش وحصار غزة، وبين صمود المقاتلين والخيانات التي تعرضوا لها في “عبدالله الإرهابي” لمظفر، وبين ما تعرض له مقاتلي غزة الخ، ولكن لم يجرؤ أحد على استحضار التشابهات هذه المرة، لفداحة المشهد، وللتخوف أن يشكل الشعر تعديًا على هول المأساة غير المسبوقة، أو بمعنى أصح لأنه يذكرنا “هذا البحث الطويل عن التشابهات والجماليات” بأننا ناجون نشاهد من بعيد، كما قال خليل حاوي “الشاعر اللبناني الذي أطلق النار على نفسه”:
فاتني طبع المجاهد
لم أعد غير مشاهد
فلأمت غير شهيد
مفصحاً عن غصة الإفصاح
في قطع وريد.
هذه المعرفة العميقة في قرارة النفس بأن المشهد الحالي لا يقف فيه غير بطل واحد، ولجوء المرء للجماليات حاليًا دليل على أنه ناجٍ بالضرورة، لم يمت ولم يتعرض للمآساة بشقها المباشر وأن ما يسمونه الاعتياد صار واقعه الجديد، لا جمالي في المذبحة.
أدورنو “عالم الاجتماع الألماني” بعد سنوات طويلة من مقولته “لا شعر بعد أوشفيتز” عاد وكتب: “للمعاناة الحق في أن تعبر عن نفسها، كما للرجل المعذب أن يصرخ من الألم، وبالتالي، ربما من الخطأ القول إنه بعد أوشفيتز كتابة الشعر لم تعد ممكنة، لكن ليس من الخطأ أن نطرح سؤالًا آخر، هل بالإمكان بعد أوشفيتز أن نستمر في الحياة؟”.