مشاركات سوريا

جيل الإبداع السوري الجديد.. حين يصبح الفن طريقاً للنجاة

أكتوبر 20, 2025

جيل الإبداع السوري الجديد.. حين يصبح الفن طريقاً للنجاة

الكاتبة: أسماء البري

 

لم تكن الحرب وحدها ما غيّر وجه سوريا، بل أيضاً جيل جديد من شبابها الذين قرروا أن يقاوموا الصعاب بطريقتهم: بالكلمة، واللحن، والريشة، والعدسة. في بلدٍ أنهكته السنوات العصيبة، يخرج اليوم صوت مختلف، أكثر هدوءاً لكنه أكثر عمقاً، يعيد رسم المشهد الثقافي السوري بلونٍ جديد، لا يشبه ما كان، ولا يقطع مع الماضي، بل يصالحه ويعيد تعريفه.

 

في المقاهي الصغيرة بدمشق وحلب، وفي مسارح أوروبا التي احتضنت المبدعين المهاجرين، تتشكل حركة ثقافية مدهشة يقودها جيل وُلد على الهامش، لكنّه اختار أن يكون في القلب. جيلٌ يرى في الفن وسيلةً للنجاة، وفي الإبداع طريقةً للقول.. نحن هنا، ما زلنا نحلم.

 

في الموسيقى، تصعد أسماء جديدة تمزج بين الفولكلور السوري العريق وإيقاعات العالم الحديث. موسيقيون شباب يعيدون تدوير الأغنية الشعبية بلمسةٍ إلكترونية أو صوت عودٍ هادئ يحمل الحنين في أوتاره. إنّهم لا يكررون الماضي، بل يحاورونه. موسيقاهم تشبه المدن التي خرجوا منها حزينة قليلاً، لكنّها تنبض بالحياة.

 

أمّا في السينما، فالكاميرا السورية الجديدة لم تعد تبحث عن البطولة، بل عن الإنسان. أفلام قصيرة ووثائقية وروائية يقدّمها مخرجون ومخرجات في العشرينيات والثلاثينيات، تروي الحكايات الصغيرة التي تصنع الصورة الكبرى. أبطالهم ليسوا جنوداً ولا سياسيين، بل أمهاتٌ ينتظرن، وأطفالٌ يرسمون، وشبابٌ يتطلعون نحو أفقٍ بعيد. في مهرجانات عربية وأوروبية، صار اسم “سوريا” يظهر مجدداً، لكن هذه المرة مرتبطاً بالفن لا بالحرب. و بالجمال لا بالنزوح.

 

وفي الأدب، تتقدّم أصواتٌ شابة تكتب بلغاتٍ مختلفة، بعضها بالعربية، وبعضها بالإنكليزية أو الفرنسية، لكنّها جميعاً تحمل الوجع ذاته. رواياتٌ تحكي عن المنفى، وشعرٌ يعيد للغة دفئها وسط البرد. هذه النصوص لا تدّعي البطولة، بل الصدق. والصدق اليوم، في زمنٍ مضطرب، هو أندر أنواع الجمال.

 

الفنون البصرية بدورها تعيش مخاضاً جديداً. في معارض دمشق وطرطوس، كما في برلين وباريس، تتجاور لوحات لفنانين شباب يستخدمون الفحم والخشب وبقايا الحديد ليصنعوا منها فناً يضجّ بالحياة. بعضهم يرسم وجوهاً بلا ملامح، كأنّها تبحث عن هوية ضاعت بين حدودٍ كثيرة. وبعضهم يملأ لوحاته بألوانٍ صارخة، كأنّها محاولة لاختراق العتمة.

 

لكن ما يجعل هذا الجيل مميزاً ليس إنتاجه الفني فقط، بل روحه الجماعية التي تجمعهم جميعاً على نقطةٍ واحدة. وأيضاً نرى مبادراتٍ ثقافية مستقلة، ومجلات رقمية، وورش عمل ومهرجانات صغيرة، يقيمها شباب بموارد بسيطة وإصرار كبير. لا ينتظرون دعماً رسمياً، ولا اعترافاً مؤسساتياً، لأنّهم يعرفون أنّ الثقافة الحقيقية تولد من الناس لا من المكاتب.

 

في هذا المشهد المتنوع، لا يبدو الإبداع السوري مجرّد استمرارٍ لتاريخٍ طويل من الفن، بل ولادة جديدة من رحم الألم. وكأنّ هذا الجيل قرر أن يكتب فصلاً جديداً للثقافة السورية، فصلاً يوازن بين الذاكرة والحداثة، بين الوطن والشتات، بين الفقد والرجاء، وبين أحلامهم الصغيرة التي يسعون لتحقيقها رافعين اسم وطنهم السماء.

 

اللافت أنّ هؤلاء المبدعين لا يرفعون شعاراتٍ كبرى، ولا يدّعون تغيير العالم. هم فقط يحاولون أن يعيشوا بكرامة، وأن يتركوا أثراً صغيراً في زحمة الخراب. وربما هذا ما يجعل أعمالهم مؤثرة إلى هذا الحد: لأنّها صادقة، وبسيطة، وتأتي من قلبٍ عرف كيف يتحوّل الألم فيه إلى فن.

اليوم، يمكن القول إنّ المشهد الثقافي السوري يعيش واحدة من أكثر مراحله صدقاً وتنوّعاً. فالفن لم يعد امتيازاً للنخبة، بل صار لغة النجاة اليومية. وفي كلّ لوحة، وكلّ قصيدة، وكلّ لحنٍ ينبعث من استوديو صغير في حارة قديمة، هناك وعدٌ خفي…

أن سوريا، رغم كل شيء، ما زالت قادرة على الإبداع، وأنّ أبناءها الجدد يرسمون ملامح وطنٍ يُعاد بناؤه بالروح قبل الحجر.

شارك

مقالات ذات صلة