فكر

سوريا الجديدة.. من كسر الخوف إلى بناء الدولة

أكتوبر 19, 2025

سوريا الجديدة.. من كسر الخوف إلى بناء الدولة

هل يجوز لنا أن نقسّم الزمن السوري بعد حدث استثنائي كبداية الربيع العربي في 2011، الذي وصف أنّه الحدث الأهم منذ زوال الحقبة الاستعمارية، إلى أطوارٍ لها سمات وخصائص واضحة وفريدة؟

تجزئة لسياقٍ زمني في محاولة لفهمه، أو اعتبار أنّ تحرّر الإنسان السوري يمر عبر مراحل ضرورية وأساسية لا يمكن القفز عليها بحالٍ من الأحوال، ولا حتى تجاوزها إلى مرحلة تالية.

إذا كانت بداية الثورة السورية في آذار/ مارس من العام 2011 الطور الأول من امتلاك السوري الفرد لصوته من جديد، بحيث ظهر هذا الامتلاك لصوته وحريته تحت شعارٍ عام هو إسقاط النظام الأسدي بما يشكّله من رمزية للقمع وانعدام تكافؤ الفرص والفساد المستشري وغياب المساءلة والشفافية، إسقاط للنموذج والتركيبة دون التفصيل في بديلها.

فالطور الثاني يبدأ بتحرير دمشق في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي هذا الحدث الأخير الذي ما زال يهيمن على ضمير الشعب السوري ووجدانه، لما فيه من دلالةٍ على مقدرته الذاتية المستحقة على التغيير والمؤكدة بفاتورة غالية من الشهداء والمغيبين والمهجّرين والمقهورين، تخوله الحديث بصوتٍ عالٍ عن مستقبل يليق بهذه التضحيات.

إنّ كلّ ما سبق من أحداثٍ في الأشهر العشرة الماضية ما هو إلا انعكاسات قوية وارتدادات خاطفة وسريعة لهذا الحدث، أيّ هزاتٍ ارتدادية لسقوط نظام شرس ودموي وقمعي ومدعوم دوليًّا بصورةٍ كبيرة، هيمن على الحياة العامة والخاصة أحياناً، لمدة تزيد عن 50 عاماً، ثمّ يترنح فجأة وبدون تمهيد وبدون توقع حتى من أشد السوريين تمسكاً بالثورة.

لنجده الآن يتهاوى ويتداعى كأنّه لم يكن يوماً ولم يعذب ولم يقتل السوريين ولم يقمع هذا الشعب يوماً، حتى أنّ البعض ذهب بعيداً في تناسي الماضي والتركيز على الحاضر بما فيه من سلبياتٍ ونواقص، إلى درجة قلب الحقائق وتزييف التاريخ القريب والذي عشنا -على الأقل جيلي- جزءاً كبيراً منه وعايناه جهاراً وعايشناه بشكلٍ يومي.

 هذه الارتدات التي يثيرها خوف وقلق غريزي لدى السوريين مبعثه التوجسات من المستقبل المجهول، وغياب الظل الطويل للنظام السابق، والعودة من حالة الموت السريري التي كانت تعيشها البلاد تحت هيمنته، كلّ ذلك أشعل ردات فعل مبالغ فيها تجلّت في إنكار جرائم النظام السابق ونسيانها بشكلٍ متعمد والتركيز على ما يحصل الآن على الأرض، رغم أنّ ما نعيشه الآن هو قطاف المرحلة السابقة وليس نتاجاً لأشهرٍ معدودة للعهد الجديد.

 رفض الاعتراف من أطيافٍ معينة من المجتمع المسؤولية ومحاولة تسويق فرضية أنّ النظام الأسدي لم يكن ذا صبغةٍ طائفية، أو أنّ الأسد قد رحل وعلينا مراقبة ومحاسبة من هم في السلطة حالياً فهم أولى بالمراقبة والمحاسبة، كلّ ذلك يأتي في حالة إنكار لعقودٍ من القمع والجرائم تبدو محاولة التفاعل معها مضيعة للوقت.

رغم أنّ الأمور لم تكن وردية خلال 14 عاماً الماضية والتي وصل فيها السوريون إلى يأسٍ عميق من جدوى فكرة التغيير، إلا أنّ جميع من شارك آنذاك في الثورة عام 2011 اتفقوا على أنّهم حققوا إنجازاً داخليًّا بمجرّد نزولهم إلى الشوارع رافعين شعارات إسقاط النظام بما يمثله ذلك من كسر للصمت المطبق على سوريا خلال 40 عاماً من سلطة البعث.

كانت الهتافات هي من أسقطت الرهبة في نفوسهم وزال الخوف مرة واحدة للأبد، خوف كان هو السمة الغالبة على سوريا مملكة الخوف والمخابرات، لذلك يحقّ لهؤلاء التذكير  بثوار 2011 ودورهم كونهم كانوا شهوداً على لحظاتٍ فارقة للتغيير ومفارقة لزمن بدأ يتآكل ويتهاوى.

هؤلاء السوريون الأوائل الذين بُحت حناجرهم بالهتافات المنددة بسلوكيات نظام الأسد، وجدوا في العودة من الغيبوبة الطويلة للمجتمع السوري قبل 2011 والمفروضة تحت مطرقة القمع البعثي العنيف سلوى لهم خلال سنوات من انسداد أفق التغيير فيما بعد هذا التاريخ.

أما في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 وبعد سقوط النظام بدأ الطور الثاني، والذي تخيل فيه برأيي المتواضع السوريون أنّهم امتلكوا بلادهم من جديد وامتلكوا زمام المبادرة داخلياً، وهنا تجدر الإشارة إلى مقولة رئيس البلاد أحمد الشرع الشهيرة “يجب الانتقال من فكر الثورة إلى فكر الدولة”.

فإذا كانت الثورة هي استرداد الحرية على المستوى الفردي، فإنّ فكر الدولة لا بدّ أن يعني امتلاك البلد من جديد من قبل أهله لا من قبل نظام مدلل دوليًّا كنظام الأسد، ورغم أنّنا لا نعلم ما يعنيه الشرع في مقولته الشهيرة على وجهة التحديد وماذا يعني بفكر الدولة والثورة وعن ماذا علينا أن نتخلى وبماذا علينا أن نتحلى من صفاتٍ لنكون ضمن مسار فكر الدولة، إلا أنّنا متأكدون من مفارقة حقبة ثورة آن لها أن تختم لتعطي المجال لما يليها.

إنّ الطور الماضي رغم مكاسبه الأخلاقية القيمية إلا أنّه يحمل في طياته ألغاماً سوف تنفجر في الطور الثاني طور بناء الدولة، يمكن كذلك أن أفترض أنّ ما حدث وما يحدث ما هو إلا أطوار على طريق التحرير من سلطة الأسد المباشرة والغاشمة خلال 14 عاماً، والتحرّر من آثارها وتبعاتها، وهو ما صرنا ننساه سريعاً بسقوط الأسد وهروبه، ولا نتعامل مع جراحه وآلامه بالطريقة المناسبة للملمة الجرح السوري.

حيث باشرت فيه سلطة العهد الجديد إجراء عمليات جراحية أخرى، في الوقت الذي تركنا فيها جرحاً غائراً مفتوحاً على مصراعيه بضمادات لا تلائم عمقه واتساعه، بحيث بدا الطور الثاني عبارة عن تكرار للجرح الأول لا أكثر، شق للجلد بدون أيّ فكرةٍ عن كيفية لملمته، فانتقلنا إلى بناءٍ بدون إنجاز مهمة العدالة الانتقالية التي تبدو أنّها عصية على الإهمال والتساهل فيها، رغم إغراء تجاوزها واستثمار الجهد والوقت في بناء المستقبل بدلاً من فتح “جرد حساب” على الماضي.

ما زالت كلّ المؤشرات لا تدعم المشاريع الانفصالية، فالتذرع بكون التقسيم سيكون مريحاً للجميع مجرّد كذبةٍ كبيرة، وبذلك تحرم البلاد من فرصة تكاملها وستنحصر فرص التنمية اجتماعيًّا واقتصاديًّا في نماذج شديدة التقزم والعوز والحاجة، ولن يكون الوضع مريحاً لأحدٍ إذ سيكون الجميع متأهباً وساهراً على حدوده وربما تنفجر الأزمات داخليًّا في كلّ جزءٍ لينقسم على نفسه هو الآخر.

إنّ الآمال التي بُنيت على فرضية أنّ الاستقلال مريح وسيوفر فرصاً اقتصاديّة وحياة هانئة، في الوقت الذي نرى فيه العالم أجمع يتجه نحو مزيدٍ من التكتل والترابط الاقتصادي والسياسي، لتبدو ترهات الحالة الانفصالية مجرّد استخفافٍ بعقول السوريين.

إنّ الحالة الوطنية السورية ليست دعابة وليست يوتوبيا، هي تراكم لسياقٍ تاريخي اجتماعي يجب التعامل معه بحذر وعناية، فالحالة الوطنية السورية التي ندعو لها تُختصر في التعايش لما تمثله سوريا من تعددية إثنية وطائفية منذ قديم الأزل، ونحن نرى اليوم سوريين يسعون لنسفها تحت دعوى أنّها لم تعد الوصفة الصالحة للشأن السوري.

الحالة الوطنية السورية حالة موجودة بالفعل، موجودة بحكم الضرورة ولا نغالي إذ نقول إنّنا نتمسك بها حتى في أحلك الظروف، لأنّنا لا نملك بديل آخر قادر على تعويضها أو على الإنابة عنها.ٍ

شارك

مقالات ذات صلة