مشاركات سوريا

الفرح الذي خفت منه

أكتوبر 18, 2025

الفرح الذي خفت منه

الكاتب: مجيب خطاب

 

حضرت عرساً لأحد المعارف القدامى، وكان شعوري عارماً بالفرح، كأنّني أتنفس للمرة الأولى بعد عامٍ من العودة إلى المدينة، عام حمل في طيّاته العزلة والحذر، شعرت أنّني أستعيد شيئاً من نفسي، وأنّ ملامح الاندماج بالحياة حولي بدأت تتكوّن من جديد، المكان كان عزيزاً على قلبي، والموسيقا الطربية ونوعها تدغدغ الروح حتى الثمالة بلا وعيٍ، تحرّك الحسّ الطربي في داخلي.

 

بدأت يداي تلوّحان راقصة، وكأنّ الجسد وجد فجأةً طريقه إلى الحياة، وسرعان ما انتبه إليّ بعض أصدقائي القدامى، الذين بدوا كنسخٍ كربونية متكررة، سيّما وجوههم التي تشبه لوحة “ابن الإنسان” لرينيه ماغريت فهم رجال أنيقون، يقفون أمام البحر المزدحم بالذكريات، إلا أنّ شيئاً فيهم يبقى محجوباً خلف رموز لا ترى  خلف الخوف أو المظاهر تراهم حاضرين جسدياً، لكن الغياب يسكن ملامحهم؛ عيونهم مغلقة بلا جفون، وأفواههم لا تنطق حتى حين تبتسم.

 

في تلك اللحظة، بدا المشهد كلّه وكأنّه تكرارٌ بصريّ لحياتنا بعد العاصفة: مجتمعات تتحدث عن “العودة إلى الحياة”، لكن الوجوه ما تزال مغطاة بتفاحة الخوف، كأنّ العدالة لم ترفع عنها بعد، وكأنّنا نعيش حضوراً بلا كشف، وحين أصرّوا عليّ أن أرقص كما هو المعمول في الأعراس، سَرت في جسدي رعشة لا تشبه النشوة. تذكّرت فجأةً أنّ أحدَ الوجوه حولي قد يكون قاتل أخي أو صديقي، أو شارك بطريقةٍ ما في وجعٍ ما يزال حياً في صدري.

 

للحظةٍ قصيرةٍ جداً، انقلب الفرح إلى خوف، والنغمة إلى صدى بعيد للذاكرة، شعرتُ أنّني تحوّلت إلى شخصٍ آخر يخاف من الناس، يخاف من الفرح نفسه، يخاف أن تكون ابتسامته خيانةً لذاكرة الشهداء، جلستُ مكاني بصمتٍ ثقيل، ثم غادرت.

 

في الطريق، ظلّ السؤال يتردّد داخلي كصدى طويل كيف يمكن أن نتصالح مع الذاكرة دون أن نمحوها؟ هل يكفي أن نريد العودة إلى عاديّتنا؟ كيف نستطيع أن نرقص دون أن نخاف، أن نفرح دون أن نخون، أن نعيش بلا أن نحمل في داخلنا حذراً من الوجوه؟

 

كيف يمكن للذاكرة أن تبقى معنا، ونظلّ أحراراً في الفرح والحياة؟ كيف نعود طبيعيين كما تعود الشعوب التي تتشارك ذاكرة واحدة وصلاة واحدة؟ لعلّ السؤال ليس عن قدرتنا على الاندماج، وإنّما عن شكل العدالة التي يسمح لنا بها عدالةٌ تقاس بمقاييس أرواحنا، لا بمعايير السياسة والنصوص القانونية الباردة؛ عدالة لا تطلب منّا أن ننسى بقدر ما تساعدنا أن نشفى وتعترف بما جرى وتواسيه بالصدق والاعتراف، لا أن تسكته باسم التسامح، العدالة التي يمكنها أن ترفع التفاحة عن وجوهنا، أن تكشف الملامح التي اختبأت خلف قضبان السجون والخوف والنجاة والحياة.

 

لسنا نطلب المستحيل نريد فقط أن نشعر بالأمان بين من حولنا، أن نكون جزءاً من كلّ حيّ، لا شظايا متنازعة من وطنٍ واحد، نريد أن نعيش الفرح دون خوف، أن نضحك دون أن نعاتب أنفسنا، أن ندخل أماكننا القديمة دون أن تلاحقنا النظرات، دون أن نشعر أنّنا غرباء في ذاكرة كنّا نحن صانعيها.

نحلم بعودةٍ هادئة، كعودة الأرض بعد المطر، طمأنينةٌ تنبت فينا من جديد، ثقة لا تُحاسَب على الفرح، نحلم أن نصير قادرين على الرقص دون أن نخاف من الذاكرة وأن نأخذ إذناً من المقابر، وعلى التذكّر دون أن نخاف من الفرح، وربما، حين ترفع التفاحة عن وجوهنا، سنرى بعضنا كما نحن حقًّا بشراً نجونا، ونتعلّم من جديد كيف نعيش ذلك الحلم البسيط أن نرقص بلا خوف، ونغنّي بلا تردّد.

شارك

مقالات ذات صلة