مشاركات سوريا

قطر.. من دعم الثورة إلى شراكة الإعمار

أكتوبر 18, 2025

قطر.. من دعم الثورة إلى شراكة الإعمار

“لن تدّخر دولةُ قطر جهداً في تقديم الدعم اللازم لسوريا الشقيقة”، هذا ما قاله الأمير تميم بن حمد آل ثاني، في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 أيلول/ سبتمبر 2025.

لم تكن هذه الكلمات مجرّد جُملٍ دبلوماسيّة تُقال في خِطابٍ أُممي، بل نَهجٌ مستمرٌ وواضحٌ لدولة قطر، اتخذته منذ الأيامِ الأولى لجانب الثورة السورية، فالدوحة رغم تخلّي الجميع عن السوريين اختارت الوقوف بجانبهم، فاضحةً نظام الأسد الذي دمر مدنهم، وكانت تؤمن منذ إشراقةِ ثورة السوريين أنّها ليست أزمة سياسيّة فقط، بل امتحاناً أخلاقيًّا للعالم العربي الصامت.

ومع انتقال الثورة السورية إلى حربٍ مع نظام الأسد البائد وحلفائه، لم تكتفِ قطر بالبيانات، بل ترجمت مواقفها إلى دعمٍ فعليٍّ على الأرض، من تمويل مشاريع الإغاثة والتعليم في الشمال السوري، إلى احتضان آلاف الطلبة السوريين في جامعاتها، ودعم المنظمات الإنسانية التي عملت رغم الحصار والخطر.

وفي محافل دوليّة عديدة ظلّت قطر متمثلة بأميرها تميم بن حمد آل ثاني من الدول القليلة التي طالبت بمحاسبة مجرمي الحرب، ورفض الأمير تميم تعويم نظام الأسد قبل تحقيق العدالة للسوريين، لكن الموقف الأهم، كما يرى كثير من السوريين، أنّ قطر لم تتعامل مع ثورتهم كمادةٍ للنفوذ، بل قضيةٍ للكرامة.

خصوصاً أنّها لم تُساوم على حقّهم في تقرير المصير والحرية، وفي أشدّ أيامِ السوريين حين تخلّى الجميع لم تغيّر خطابها عندما تغيّر ميزان القوى، واليوم ومع بداية مرحلة الإعمار وسقوط نظام الأسد البائد، يبدو أنّ الدوحة تستعدّ لتكرار موقفِ بناءٍ جديد في آمال السوريين، لكن هذه المرّة في وجهٍ جديد لا في رماد الحرب.

قطر والأبواب المفتوحة: من إعادة الوجود الدبلوماسي إلى مفاهيم جديدة

بعد سقوط الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، ومع تغيّر المشهد السوري جذريًّا كانت الدوحة قد دخلت الساحة السوريّة من أوسعِ أبوابها لا باعتبارها داعماً للسوريين بل لأنّها كانت في حقيقة الموقف “فاعلاً دبلوماسيًّا مُبكراً يعيدُ تشكيل نفوذه بين أشقائه”، وفي 15 كانون الأول/ ديسمبر 2024 صرّحت الخارجيّة القطرية بأنّها ستعيد افتتاحَ سفارتها في دمشق، بعد أن كانت معلّقة منذ تموز/ يوليو 2011 بعد انطلاق الثورةِ السوريّةِ بأشهرٍ قليلة.

وقد وصف البيان الرسمي القرار على أنّهُ يعكِسُ “الدعم للشعب السوري وكفاحهُ من أجلِ نيلِ حقوقهِ المشروعة” ومن ثمّ استعادةِ العلاقات الأخوية التاريخيّة بين البلدين.

قبل يومين تماماً من القرار، أعلن مسؤولٌ قطريٌّ رسميًّا أنّ وفداً رفيع المستوى سيتوجه لدمشق للتنسيقِ مع الحكومة الجديدة من أجلِ إعادةِ افتتاحِ وتحسينِ تدفّقِ المساعدات الإنسانية، وفي 21 كانون الأول/ ديسمبر 2025، شهدت دمشق مراسم رفع العلم القطري على مبنى السفارة وسط عمليات تنظيف وإزالة الشوائب من واجهة المبنى، في مشهدٍ رمزي يؤكد العودة الفعلية.

لم تتوقف قطر هُنا، بل وصل رئيسُ وزراء قطر ووزير الخارجية “الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني” في 16 من كانون الثاني/ يناير 2025 إلى دمشق في زيارةٍ رسميّة للقاء قيادة الحكومة السورية الانتقالية، حيث بحث الجانبان تعزيز العلاقات واستئناف التبادل في قطاعاتٍ متعددة.

ثمّ أتت اللحظة المفصلية: في 30 كانون الثاني/ يناير 2025، زار أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني دمشق، ليكونَ أول رئيس دولة يزور العاصمة السورية بعد التغيير الكبير، ليلتقي مع الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، وأعلن أمير قطر أنّ بلاده ستزود سوريا بـ 200 ميغاواط من الكهرباء كبداية، مع خطط لزيادة تدريجية.

الزيارة للأمير تميم حملت في جوهرها بعداً سياسيًّا عميقاً، باعتبارها جاءت في وقتٍ يُفتتح فيه ملفات إعادةِ البناء والدعم الخارجي، مُظهرة أنّ الدوحة ليست فقط عائدة إلى دمشق، بل حتى تضع يداً مبكرة في مشاريع إعادة البنى التحتيّة والعلاقات الرسميّة، وأكد الأمير تميم خلالها على ضرورةِ تشكيل حكومة تمثّل كلّ أطراف الشعبِ السوريّ ما يعكسُ طموحاً أكثر من مجرّد تعاون ثنائي.

فالدوحةُ اليوم خلال هذا الترتيب الزمني المُتتابع تحوّلت من موقفٍ داعم -خلال سنوات الثورة- إلى كيانٍ دبلوماسي حاضر على الأرض، لترفع راية النفوذ الجديد لا عبر القوة العسكرية بل عبر وجود مؤسسي ومبادرات عملية، كلّ هذه الخطوات كانت وما زالت تُعبّر عن استراتيجيات عميقة لقطر في الزمن السوري الجديد، لتكون من أوائل الدول التي تُثبت نفسها ليس كمراقبٍ، بل كشريكٍ مبادر في الفصل القادم من تاريخ سوريا.

فتح الأبواب للسياسة

مع إعلانِ الأمير تميم بن حمد آل ثاني في كلمتهِ أمامَ الأُمم المتحدة التزام قطر بدعم الشعوب في سعيها للعدالة والاستقرار، بدا واضحاً أنّ الدوحة تخطو باتجاهٍ جديد في الملف السوريّ، لا كوسيط دبلوماسي فحسب بل كشريكٍ في إعادة الإعمار ومعركةِ الأمل.

 فبعد سنوات من العزلة الإقليمية، تحوّلت قطر إلى فاعلٍ يربط بين البعد الإنساني والسياسي، مقدمةً نفسها كدولة لم تتلوث بدماء الحرب، بل احتفظت برصيدها الأخلاقي تجاه السوريين منذ انطلاق الثورة السوريّة عام 2011.

إلا أنّ هذا الدور لا يكادُ يخلو من الرسائل السياسيّة، فالاستثمار القطري في سوريا الجديدة، هو استثمارٌ في شرعيّة الحكومة الجديدة في دمشق، للبحث عن اعترافٍ دولي للأخيرة وهذا ما حصل حقاً اليوم، وفي المقابل إنّ دعم قطر لإعادة الإعمار وبشكلٍ علنيٍّ لا ينفصلُ عن رغبتها في إبعاد وكبح نفوذ طهران في المنطقة ولا سيّما سوريا، وقد اشتركت الرغبة بين كلّ من حكومة دمشق والدوحة باعتبار إيران هي عدوّ السوريين، هذه الإجراءات اعتبرها محلّلون نموذجاً مختلفاً للتأثير في المنطقة يقوم على التنمية بدل السلاح.

ورغم أنّ المالَ القطريّ لن يعيد المدن المدمرّة السورية وحده، لكنّهُ في رمزيتهِ سيعيد فكرةَ أنّ الشرق الأوسط الجديد لا يُبنى بالقوة، بل بالتنميّة المتصالحة والعدالة، والدوحة تعلمُ جيّداً أنّ السوريين الذين خرجوا منتصرين في ثورتهم بعد 14 عاماً يبحثون اليوم عن دولة تقف بجانبهم لا فوقهم، وعن شريكٍ يعيدُ إليهم الكرامة قبل البيوت.

فالحقيقة أنّ التحدّي القطري اليوم ليس في حجمِ ما تموّله بل بالقدرةِ على تحويل الإعمار لفعلٍ سياسيٍّ أخلاقيٍّ يقوم بفتحِ الطريقِ لدولةٍ عادلة ومستقرّة.

قطر بين الضغوط الإسرائيلية ومسؤولية الوسيط

وسط هذه التوترات الإقليمية المتكررة، تواصل قطر أداء دورها كوسيط لا يكلّ، رغم الضغوط المتزايدة عليها من أطراف عدة، الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قيادات من حماس داخل الدوحة في أيلول/ سبتمبر 2025 كانت اختباراً قاسياً لذلك الدور، إذ ردّت قطر بدعوة قمة عربية وإسلامية طارئة، في خطوة حملت رسالة سياسية واضحة: أنّ الوسيط ليس طرفاً ضعيفاً، وأنّ السيادة القطرية جزءٌ من معادلة العدالة الإقليمية.

يرى مراقبون أنّ الدوحة لا تؤدي وساطتها بوصفها “خدمة” بل باعتبارها استراتيجية طويلة الأمد، تستثمر فيها مكانتها وعلاقاتها المتشعبة من غزّة إلى دمشق، ومن واشنطن إلى طهران، فبخلاف الوسطاء التقليديين الذين يلتزمون الحياد السلبي، بَنَت قطر نموذجاً نشطاً يتجاوز نقل الرسائل إلى صناعة التوازن نفسه.

فمشاريعها الإنسانية في سوريا تمثّلت بإرسال 90 طناً من المساعدات، وعمليات “قطر الخيرية” التي تجاوزت 4800 مشروع ليست فقط عملاً إنسانيًّا، بل هي تعبير عن فلسفة الدوحة في الدمج بين الإغاثة والسياسة.

الدعم القطري لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بملامح الحياة التي بدأت تعود إلى وجوه السوريين في المخيمات والمدن المهدّمة، فالمشاريع التي تموّلها الدوحة من شبكات مياهٍ وصحّةٍ إلى مبادرات إسكان مؤقت تعيد تعريف معنى “الإعمار” بوصفه فعل كرامة قبل أن يكون اقتصاداً.

إنّ الدور القطري في دعم السوريين اليوم يتجسّد بشخصية الأمير تميم بن حمد آل ثاني، الذي لم يتعامل مع مأساة سوريا كملفٍ سياسي، بل قضية إنسانية وأخلاقية، فمنذ بدايات الثورة وحتى لحظة التحرير، كان الأمير تميم الصوت العربي الأوضح في الدفاع عن حق السوريين في الحرية والكرامة، واليوم يواصل موقفه نفسه عبر دعم إعادة الإعمار وتمويل مشاريع تعيد الحياة للمناطق المنكوبة.

فالترحيب بالدعم القطري ليس مجاملة دبلوماسية، بل اعترافٌ بمسارٍ من الثبات والمصداقية نادرٍ في السياسة العربية، ومساحة أملٍ تفتحها الدوحة لسوريا الجديدة.

وهكذا، لا تبدو قطر مجرّد داعمٍ سياسي أو اقتصادي، بل شريك في رحلة التعافي السوري. ومع قيادة الأمير تميم، يتحوّل الأمل من شعارٍ إلى مشروعٍ فعليٍّ يُعيد لسوريا روحها ومكانتها بين أممٍ اختارت النهوض بعد الألم.

شارك

مقالات ذات صلة