مجتمع
الكاتب: عبد الله بشار تركماني
التعليم ليس مجرّد حصة صفية ولا كتاب مدرسي يُطوى مع انتهاء العام الدراسي، إنّه عملية ممتدة تبدأ من البيت ولا تنتهي عند بوابة المدرسة، ومن هنا تنشأ الإشكالية الكبرى: من يملك الدور الأهم في رسم ملامح الجيل القادم؟ هل هو المعلم بما لديه من أدواتٍ تربوية وخبرة مهنية، أم البيت بما يحمله من قيم وسلوكيات تُزرع في الطفل منذ صغره؟
إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء، سنجد أنّ صورة المدرسة القديمة ارتبطت بصرامةٍ شديدة، بل وبعنف أحياناً. العصا المعلّقة خلف الطاولة، أو الكلمات القاسية التي يظنّ المعلم أنّها تبني هيبة وتزرع الانضباط، كانت جزءاً من يوميات الكثير من الطلبة. وقد أفرزت هذه الأساليب جيلاً يحترم المعلم ظاهراً، لكنّه في العمق قد يحمل شيئاً من الخوف أو النفور. ومع ذلك، كان لهذا الانضباط الصارم نتائج ملموسة: احترام ظاهر للمعلم، التزام بالقواعد، وعدم جرأة على كسر النظام.
أمّا اليوم، فقد تبدلت المقاربة التربوية، صار التعليم يقوم على جعل الطالب محور العملية، وعلى أساليب حديثة مثل:
التعلم التعاوني الذي يخلق بيئة تشاركية.
التعلم التفاعلي بالوسائط التكنولوجية.
التعلم المتمركز حول الطالب بما يراعي فروقه الفردية وميوله.
هذه الأساليب فتحت المجال للتفكير النقدي والإبداعي، وحرّرت الطالب من قيد الخوف لكنّها في المقابل أضعفت جانب الانضباط التقليدي، وأتاحت مساحاتٍ أوسع للتسيب وقلة الاحترام أحياناً.
الشكوى المتكررة من المعلمين اليوم هي تراجع احترام الطلبة، لم تعد الكلمة وحدها تكفي لفرض النظام، وكثيراً ما يصطدم المعلم بمواقف تفقده هيبته أمام الصف، وهنا يصبح من الضروري استحضار القاعدة الأخلاقية التي تتجاوز الخوف والرهبة: “من علّمني حرفاً صُنتُ له ودًّا، وليس كنتُ له عبداً”
فالمطلوب ليس إذلال الطالب ولا استعباده، بل زرع قيمة الاعتراف بفضل المعلم وحفظ مكانته. احترام المعلم لا يُبنى على العصا، بل على الوعي بقيمة العلم.
لا يمكن للمدرسة وحدها أن تصنع جيلاً سوياً. فالتلميذ الذي يغادر الصف يعود إلى بيت يختزن كلّ القيم الأولى التي تشكّل شخصيته. إذا كان البيت يزرع الاحترام، سيحمله الطالب معه إلى المدرسة. أمّا إذا اعتاد أن يرى أهله يستخفون بالمعلم أو يتهاونون في محاسبته، فسوف يفقد الاحترام تلقائيًّا.
الأسرة هنا ليست مجرّد مكمل، بل شريك أساسي. هي التي تغرس الانضباط منذ الطفولة، وهي التي تترجم صورة المعلم أمام الطفل: إما قدوة تُحترم، أو موظف عابر لا وزن له.
التعليم الحديث لا يمكن أن ينجح إلا إذا وُجدت شراكة حقيقية بين المدرسة والمنزل. المعلم يحتاج إلى دعم الأهل في تثبيت قيم الاحترام والانضباط، والأهل يحتاجون إلى المدرسة لصقل معرفة أبنائهم وتوسيع مداركهم. إنّها عملية تبادلية، لا يمكن لطرفٍ واحد أن ينجزها.
لقد تغيّرت الوسائل التربوية بين الأمس واليوم، لكن الهدف ظل واحداً: بناء إنسان متعلم، متوازن، وواعٍ. إذا تكاملت أدوار المعلم والمنزل، سيولد جيل يحمل علماً وأخلاقاً، أمّا إذا بقي كلّ طرفٍ يرمي المسؤولية على الآخر، فسوف ندفع ثمن فراغ تربوي لا تعالجه المناهج الحديثة ولا العصا القديمة.




