سياسة
بعد سنوات من هيمنة موسكو على القرار السوري في عهد نظام بشار الأسد، شكّل اللقاء بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس السوري أحمد الشرع محطة مفصلية في مسار العلاقات بين البلدين. إذ كانت المرحلة السابقة قائمة على معادلة غير متكافئة: حماية روسية مقابل ولاء سياسي واقتصادي مطلق.
تحوّلت خلالها سوريا إلى ساحة نفوذ روسي مباشر استخدمتها موسكو لإعادة تثبيت حضورها في الشرق الأوسط، وضمان موطئ قدم استراتيجي في البحر المتوسط من خلال ميناء طرطوس وقاعدة حميميم، إلى جانب السيطرة على عقودٍ طويلة الأمد في مجالات الطاقة والفوسفات.
تجلّت تلك العلاقة بطابع التبعية السياسية والاقتصادية، بل حتى الأمنية والعسكرية، إذ منح نظام الأسد امتيازات غير مسبوقة لروسيا وسمح بوجود عسكري مفتوح تحت ذرائع “الحماية” و”الاستقرار”.
ومع سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، دخلت دمشق مرحلة جديدة بقيادة الحكومة الانتقالية التي تسعى إلى إعادة صياغة علاقاتها الخارجية على أساس المصلحة الوطنية لا الولاء السياسي. وفي هذا الإطار، جاءت زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو لتفتح الباب أمام صياغة معادلة مختلفة قوامها التعاون المشروط بالاحترام المتبادل، بما يعيد التوازن إلى العلاقات الثنائية ويضع حدًّا للإرث القديم الذي كرّس تبعية القرار السوري للنفوذ الروسي.
من المفترض أن تكون الخطوة السورية الأولى في هذه المرحلة هي وضع ضوابط واضحة للعلاقة مع روسيا. فوجود أيّ قوات روسية في سورية يجب أن يكون محدداً باتفاقات واضحة، لا بقرارات أحادية. كما ينبغي تحويل العلاقة من طابعها العسكري إلى شراكةٍ اقتصادية وتنموية قائمة على الشفافية. لا يمكن لسوريا الجديدة أن تقبل ببقاء القواعد الروسية على الساحل دون مقابل أو دون رقابة سيادية، ولا أن تسمح لموسكو بالتحكم في ملفات السياسة الداخلية أو الخارجية تحت ذرائع “الدعم” أو “الاستقرار”.
في المقابل، من حقّ دمشق أن تطلب من موسكو دعماً اقتصاديًّا حقيقيًّا يساهم في إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر، عبر مشاريع استثمارية محددة في مجالات الطاقة والنقل والزراعة، وأن يكون هذا الدعم مشروطاً بالابتعاد عن أيّ تدخلٍ سياسي أو أمني. كما يحقّ لها المطالبة باعتراف من روسيا بدورها السابق في دعم النظام، أو على الأقل اعتذار يمهّد لفتح صفحة جديدة تقوم على الشفافية لا على الإنكار.
أما من الجانب الروسي، فالمتوقع أن تتعامل موسكو مع المرحلة الجديدة بمنطق البراغماتية المعتاد، فتُظهر استعداداً للتعاون مع الحكومة السورية الانتقالية، لكنّها ستسعى في الوقت ذاته للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية القديمة. سيحاول الروس تثبيت وجودهم العسكري في طرطوس وحميميم تحت مبررات التعاون الأمني، وسيعرضون تقديم دعم اقتصادي محدود مقابل ضمان استمرار نفوذهم السياسي والعسكري في سوريا. لكن هذا النوع من المقايضات هو تحديداً ما يجب على الحكومة السورية أن تتجنبه، لأنّه يعيد إنتاج علاقة التبعية نفسها التي كانت قائمة في عهد الأسد.
كما يُتوقّع أن تطرح موسكو مطالب غير مباشرة، مثل استبعاد ملف تسليم بشار وماهر الأسد مقابل استمرار التعاون، أو الإبقاء على اتفاقات اقتصادية طويلة الأمد تمّ توقيعها خلال فترة النظام السابق. وهذه الشروط لا يمكن القبول بها في سياق دولة تسعى لبناء شرعية جديدة قائمة على العدالة والسيادة. فالقضية ليست فقط في صيغة الاتفاقات، بل في جوهر العلاقة ذاتها: هل ستكون موسكو شريكاً في بناء سوريا الجديدة أم عبئاً يعيد إنتاج الماضي؟
زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو ليست زيارة بروتوكولية، بل خطوة مدروسة نحو ترسيم ملامح علاقة مختلفة. فالمحادثات التي جرت بينه وبين الرئيس بوتين تناولت ملفات عميقة تتجاوز الشكل الدبلوماسي إلى جوهر العلاقة نفسها.
خلال المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيسين أكد بوتين تمسك بلاده باستمرار العلاقات التاريخية التي تمتد منذ عام 1944، مشيراً إلى أنّ موسكو كانت دائماً “صديقة للشعب السوري”، وأنّها ترغب في استئناف اللجنة الحكومية المشتركة وتوسيع التعاون الاقتصادي. أمّا الرئيس الشرع فقد ركّز على أنّ سوريا الجديدة تسعى لإعادة بناء علاقاتها على أساس الاحترام المتبادل، مشدداً على أهمية استقلال القرار الوطني ووحدة الأراضي السورية، وعلى ضرورة أن تكون العلاقة مع موسكو علاقة تعاون لا وصاية، واحترام لا تبعية، وتدلّ هذه التصريحات على تحوّل جوهري في الخطاب السياسي السوري، إذ عبّر الشرع عن رغبة واضحة في تحويل العلاقة مع روسيا من “تحالف وصائي” إلى “شراكة سيادية”.
في المقابل، أظهر بوتين براغماتية واضحة، محاولاً الحفاظ على المصالح الروسية من دون الانزلاق إلى مواجهةٍ مع القيادة السورية الجديدة. وهذا التوازن الدقيق بين رغبة موسكو في البقاء وتأكّد دمشق من سيادتها يشير إلى بداية صياغة علاقة جديدة قائمة على المعاملة بالمثل، حيث تحاول كلّ جهةٍ أن تعيد تعريف نفوذها وفق التغيرات التي فرضها سقوط النظام السابق.
في ضوء ذلك، تبدو المهمة السورية واضحة، يجب على دمشق أن تضع شروطاً صريحة لأيّ تعاونٍ مقبل مع موسكو، أهمها تحديد خصائص وشكل وجود القواعد العسكرية الروسية، وتحويلها من مراكز نفوذ إلى مواقع تعاون عسكري محدود تحت الإشراف السوري. كما ينبغي للحكومة الانتقالية أن ترفض أيّ ضغوطٍ تتعلق بعدم تسليم رموز النظام السابق، وأن ترفض أيّ اتفاقٍ اقتصادي أو أمني يقيّد سيادتها أو يعيد إنتاج التبعية القديمة. أمّا الدعم الروسي، فيجب أن يكون مشروطاً بالتزام موسكو بالعمل وفق ما يخدم الاستقرار السوري لا نفوذها الإقليمي.
إنّ لقاء موسكو بين الشرع وبوتين يمثل بداية مرحلة جديدة لا تخلو من التعقيد، لكنّها تحمل فرصة لإعادة بناء علاقة أكثر توازناً وعدلاً. فالتاريخ الثقيل بين البلدين لا يُمحى، لكنّه يمكن أن يُعاد تفسيره في ضوء مصلحة سوريا الجديدة التي تسعى لاستعادة سيادتها وكرامتها السياسية. فإذا نجحت دمشق في ترسيخ هذه المبادئ في علاقتها مع موسكو، فستكون قد وضعت الأساس الأول لسياسة خارجية مستقلة، تُنهي عقود التبعية وتُعيد لسوريا موقعها كدولة صاحبة قرار لا كحليف تابع.