قسد.. مناورة جديدة تُعيد رسم خريطة الجزيرة السورية
قسد.. مناورة جديدة تُعيد رسم خريطة الجزيرة السورية
لم تكن تصريحات الجنرال مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الأخيرة على فضائية “روناهي”، مجرد حديث عابر. فهي في جوهرها تكشف عن تحوّل واضح في الخطاب السياسي والعسكري لـ “قسد”، وتعكس نهجاً جديداً في تعاطيها مع الحكومة السورية. وبذلك تمثل هذه الجولة جولة جديدة من المناورة بين الحكومة و”قسد”. ورغم أن حدوثها جاء بعد تصعيد ميداني في حيّي الأشرفية والشيخ مقصود، إلا أنها تشير بوضوح إلى أن سقف مطالب “قسد” في المفاوضات ما يزال مرتفعاً. في المقابلة، تحدث عبدي عن لقائه الأخير مع الرئيس السوري أحمد الشرع في العاصمة، مشيراً إلى اتفاق مبدئي حول عدة قضايا، من دون الخوض في تفاصيل بعض النقاط الخلافية، لكنه في الوقت ذاته قدم إشارات كافية لفهم ملامح المرحلة المقبلة. وأوضح أن سلسلة الاجتماعات في دمشق، التي شملت لقاءات منفردة مع وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات السورية، أسفرت عن تفاهم على وقف شامل لإطلاق النار واستمرار الحوارات على مستوى رفيع، مع اتفاق مبدئي على مبدأ اللامركزية، رغم استمرار الخلاف حول تفسير بعض المصطلحات. كما تطرق عبدي إلى تفاهمات جارية لإدراج بنود اتفاق العاشر من آذار في الدستور السوري، وذكر اجتماعات مقبلة لمناقشة تعديل الدستور، وأشار أيضاً إلى تنسيق شفهي بشأن دمج قواته في الجيش السوري، فيما أعربت دمشق -بحسبه- عن رغبتها في الاستفادة من خبرات قواته. وفي هذا السياق، أوضح أن اللجنة العسكرية التابعة لـ “قسد” ستتوجه قريباً إلى العاصمة، وتضم ممثلين عن قوى الأمن الداخلي التي يُفترض أن تُدمج ضمن وزارة الداخلية، في إطار تفاهم أمني وعسكري ما تزال تفاصيله قيد البحث. من خلال مقابلته مع القناة، سعى عبدي إلى استخدام نتائج سلسلة المفاوضات الأخيرة لإيصال رسائل متعددة. فقد بدت المقابلة بمثابة وسيلة للشفافية تجاه قاعدته الشعبية، وإطلاع الجمهور السوري على نقاط جديدة يبدو أنه توصل إلى تفاهمات بشأنها مع الحكومة، وفي المقابل، أعادت المقابلة إبراز موقفه التفاوضي من موقع قوة، مؤكداً أنه لا يتعامل كشريك ضعيف، بل كطرف قادر على فرض شروطه. ورغم هذه الانفتاحات على دمشق، أظهر عبدي تمسكاً واضحاً بالهيمنة على الأرض، مؤكدًا أن اتفاق حلب الموقّع في الأول من نيسان يجب أن يُطبّق عمليًا، في إشارة واضحة إلى التمسك بملف الشيخ مقصود والأشرفية. وجدير بالذكر أن هذا اللقاء الطارئ بين الجنرال والقادة السوريين جاء عقب الاشتباكات الأخيرة في حيّي الأشرفية والشيخ مقصود في حلب، ذوي الغالبية الكردية، بتاريخ 7 تشرين الأول 2025، حيث أعلن وزير الدفاع مرهف أحمد أبو قصرة التوصل إلى اتفاق على وقف فوري لإطلاق النار. في البعد السياسي، دعا عبدي صراحةً إلى إدراج حقوق الكرد في الدستور السوري كأحد شروط التسوية الدائمة، مشيراً إلى زيارات وشيكة لوفد من الإدارة الذاتية إلى المحافظات السورية بهدف تعزيز الحوار الداخلي، بالتوازي مع جهود لإعادة المهجّرين إلى مناطقهم، بما في ذلك أهالي عفرين ورأس العين وتل أبيض. وفي سياق متصل، برزت عدة نقاط جديدة في تصريحات عبدي لم تتطرق إليها الحكومة السورية من قبل، وتشمل تفاهمات حول مبدأ اللامركزية مع استمرار الخلاف حول تفسير المصطلحات، واجتماعات مقبلة لمناقشة تعديل الدستور السوري، وبحث مشاركة دمشق في محاربة الإرهاب خلال اجتماع الحسكة، ورغبة الحكومة في الاستفادة من خبرات قواته، إضافة إلى اقتراح واشنطن تشكيل قوة مشتركة بين “قسد” والحكومة لمواجهة “داعش.” تأتي أهمية هذه التصريحات من كونها ترتبط مباشرة بملفات الرقة ودير الزور والحسكة، ما يجعلها مؤشراً على حجم التحولات السياسية والميدانية في المنطقة. من جهة أخرى، تنقسم هذه التصريحات إلى قسمين متباينين: يظهر القسم الأول عبدي منفتحاً، لكنه “مناور حذر”، يسعى لتنفيذ بنود اتفاق العاشر من آذار، من خلال إشاراته إلى التعاون مع دمشق ومشاركة واشنطن، ومحاولته تقديم نفسه كشريك سياسي واستراتيجي، أما القسم الثاني فيبرز موقفه من موقع القوة المسيطر على المشهد التفاوضي، إذ من الواضح أنه لا ينوي التنازل عن النفوذ الميداني في الجزيرة، ويضع نفسه كطرف قادر على فرض شروطه، وليس شريكاً مستقبلياً في المسار التفاوضي. وتعكس هذه الثنائية في جوهرها تحدياً صارخاً لمفهوم الاندماج الفعلي، إذ تُظهر مصادرة القرار السيادي للدولة السورية، وتوضح حجم النفوذ السياسي والعسكري الذي باتت “قسد” تمارسه على الملف السوري، سواء على المستوى الداخلي أو ضمن أطر التفاهم مع القوى الإقليمية والدولية. وفي هذا الإطار، تبدو تصريحات عبدي بمثابة معادلة رمزية معكوسة؛ إذ تتعامل قواته مع دمشق كطرف يمكن دعوته للانضمام إلى محاربة الإرهاب، لا كسلطة مركزية يُفترض أن تكون صاحبة القرار في هذا الملف، وهو ما يشكل تحدياً ضمنياً لبنية الدولة التقليدية. كما يكشف ذلك عن تحوّل “قسد” من قوة أمر واقع إلى فاعل سياسي متحكم في مصير ثلث الجزيرة السورية، أي نحو 40% من مساحة سوريا، في سعيها لإعادة تعريف مفهوم الشراكة والسيادة في البلاد. وفي سياق مواز، جاء موقف وزير الدفاع التركي، يشار غولر، ليعكس ضغوطًا إقليمية إضافية على “قسد”، مؤكدًا موقف تركيا الثابت من التنظيمات التي تصفها بالإرهابية، وفق ما نقلته وكالة الأناضول التركية الناطقة بالعربية. فقد صرّح غولر، خلال تفقده تدريبات الجيش التركي في أنقرة، بأن بلاده لن تسمح لأي تنظيم إرهابي، وخاصة “بي كي كي/واي بي جي/قسد”، بأن يتجذر في المنطقة أو ينشط تحت أسماء مختلفة في أراضي دول الجوار، وشدّد على ضرورة وقف كافة الأنشطة الإرهابية وتسليم الأسلحة فوراً ودون قيد أو شرط. تأتي هذه التصريحات بالتوازي مع محاولة “قسد” إعادة ترتيب موقعها السياسي والعسكري بين دمشق مستفيدة من دعم التحالف الدولي، ما يضع قيادتها أمام تحد مزدوج: الحفاظ على مكتسباتها الميدانية في الرقة ودير الزور والحسكة، وإدارة العلاقة مع تركيا ضمن توازن دقيق. يُشكّل الخطاب التركي في هذا التوقيت عنصر ضغط خارجي يوازي أهمية الحوارات الجارية مع دمشق وواشنطن، ويؤكد محدودية هامش المناورة الذي تمتلكه “قسد” رغم تحركاتها التفاوضية الأخيرة. ورغم ذلك، تبدو دمشق غير راغبة في تصعيد مباشر بعد أحداث السويداء والأزمة السياسية التي أعقبتها، في حين تتجنب “قسد” الدخول في مواجهة مفتوحة. ومن ثمّ، يمارس الطرفان المناورة بحذر، يعيدان ترتيب ملفاتهما الداخلية، ويراقبان بترقب أي تغييرات قد تطرأ على المعادلة الإقليمية. وفي ظلّ ذلك، يلفت غياب أي بيان رسمي من الحكومة، باستثناء تغريدة يتيمة لوزير الدفاع، إلى أن الحكومة غير راضية عن سير المفاوضات أو نتائجها، وترفض الالتزام الرسمي بها لتجنب المواجهة مع الرأي العام المحلي. بهذا الأسلوب، تمارس الحكومة المناورة السياسية، للحافظ على إمكانية ضبط إيقاع المفاوضات دون أن تؤدي إلى تفجيرها، بينما تواصل “قسد” تعزيز موقعها التفاوضي واستغلال أي ثغرة لتحقيق مكاسب إضافية. وبعد هذه الجولة، زار كل من وزير الدفاع ووزير الخارجية ورئيس الاستخبارات العاصمة لتنسيق ومتابعة نتائج المفاوضات، ما يعكس جدية الحكومة في إدارة العلاقة مع “قسد” ضمن مسار متوازن يجمع بين ضبط الملفات الداخلية والحرص على استقرار الوضع في الجزيرة السورية. في المحصلة، تظهر “قسد”، على عكس بقية القوى السياسية والعسكرية المعارضة، أكثر مرونة وأقدر من غيرها على لعبة المناورة السياسية. فعندما تدخل حكومة دمشق في أزمة، ترفع “قسد” سقف طلباتها وتستغل الأزمة لدعم حتى الأطراف المناوئة للحكومة، كما حصل مع السويداء. أما عندما تشعر “قسد” بأن وضع الحكومة يسمح لها بالمناورة، تتقرب وتتجنب الدخول في صراع مفتوح. بذلك، فإن الثابت الوحيد في علاقة “قسد” مع الحكومة السورية هو أن الطرفين يمارسان لعبة السياسة على رقعة الواقع وحساباته، فيما تظل التحولات رهن مصالح القوى الإقليمية، دون أن يغامر أيٌّ منهما بخطوة غير محسوبة العواقب.