آراء
على مدى عقدٍ كامل، قدّمت إسرائيل أنظمة دفاعها الصاروخي بوصفها معجزةً تكنولوجية ترسخ تفوقها النوعي في مواجهة ”محيطٍ معادٍ“. فالقبة الحديدية ومقلاع داود وحيتس صُمّمت لتوفير مظلة تحمي الجبهة الداخلية الإسرائيلية من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وتمنح القيادة السياسية مساحة رحبة للاستئثار بالقرار دون ضغط الشارع.
لكنّ واقعا أكثر هشاشة يتكشف خلف الصورة الدعائية: منظومات فعّالة تكتيكيًّا، لكنّها مُكْلِفة، محدودة الطاقة الاستيعابية، وتعتمد اعتمادًا شبه كامل على الدعم الأميركي. وبذلك تتحوّل من درعٍ رادع إلى عبءٍ مُرهق في الحروب الطويلة والمتعددة الجبهات.
أولًا: الأرقام تكشف حدود الفعالية
تُقدّر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية نسبة نجاح القبة الحديدية بين ٩٠ و ٩٥٪ في اعتراض المقذوفات المهدِّدة. لكن تحليل بيانات INSS وRAND وCSIS، إلى جانب تقارير Oryx وTel-Escapes OSINT، يُظهر أنّ هذه النسب تخص فقط المقذوفات التي تُصنَّف «خطرة»، أيّ أنّ النظام لا يحاول اعتراض القسم الأكبر من القذائف التي تُعتبر «ساقطة في مناطق مفتوحة».
خلال أسبوع الهجمات المكثّفة في مايو ٢٠٢٤ مثلًا، أُطلقت نحو ٤,٥٠٠ قذيفة من غزّة ولبنان، في حين نفّذت القبة الحديدية نحو ١,٦٠٠ عملية اعتراض فقط. نسبة النجاح المُعلنة (٩٠٪) تخص هذه العمليات، لا إجمالي المقذوفات.
التحليل الرقمي الميداني باستخدام أدوات OSINT mapping أظهر أنّ أكثر من ثلث المناطق المستهدفة لم تُغطَّ بنيران الاعتراض أصلًا، بسبب قيود تغطية الرادارات القصيرة المدى والسرعة الزمنية بين الاكتشاف والإطلاق، ما يخفض كفاءة المنظومة الإجمالية إلى نحو ٥٥٪ في سيناريو الإشباع الكثيف.
بمطابقة بيانات الإطلاق والاعتراض عبر توقيتات الإنذار المدني، ومقاطع فيديو تحقّقتُ منها جغرافيًّاباستخدام أدوات Bellingcat وخرائط Sentinel، تمكنت من تحديد فجوات التغطية الفعلية.
ثانيًا: معادلة الكلفة والاستنزاف
تكلفة الصاروخ الاعتراضي الواحد تتراوح بين ٤٠ و٦٠ ألف دولار (بحسب CRS وتقارير شركة رافائيل)،بينما تُقدّر تكلفة الصاروخ المهاجم بين ٣٠٠ و٨٠٠ دولار، والطائرة المسيّرة التجارية المفخخة بأقل من١,٠٠٠ دولار. أيّ أنّ كلّ موجة قوامها ألف صاروخ رخيص قد تفرض على إسرائيل كلفة تفوق ٥٠ مليون دولار لاعتراضها، فضلًا عن استهلاكٍ لوجستيٍّ يستدعي تموينًا فوريًّا من الولايات المتحدة. تقرير CSIS (2024) يحذّر من أنّ “الاستنزاف الاقتصادي للقبة الحديدية في حال استمرار هجمات الإشباع قديُعرّض استدامة المنظومة للخطر خلال أسابيع، حتى مع الدعم الأميركي الكامل“. أمّا RAND (2023) فيؤكد أنّ “كلفة الحفاظ على معدلات الاعتراض الحالية تفوق طاقة التمويل الذاتي لإسرائيل في حرب طويلة، ما يجعل استمرار المنظومة مرهونًا بإمدادات خارجية وتمويل طارئ“.
الأدلة الرقمية تُبرز الفجوة الحقيقية:
بحساب معدل Burn-rate عبر ضرب عدد الاعتراضات اليومية من بيانات INSS مضروبا في تكلفة الوحدة (CRS) × مدة التشغيل نصل إلى الكلفة اليومية التقديرية. نجد نسبة فاقد مهولة من الاستنزاف تفوق نسبة ال٢٠٪ معدل الارتفاع عن عام ٢٠٢٤ بمرة ونصف تقريبا خلال الربع الأخير من العام الجاري ومازلنا في أكتوبر منه.
ثالثًا: تكتيكات الإشباع الكثيف – الضعف البنيوي الحقيقي
التهديد الأخطر ليس في صاروخٍ واحد، بل في العدد المتزامن. تكتيك «الإشباع الكثيف» يقوم على إطلاق مئات أو آلاف المقذوفات في وقتٍ واحد لإرباك المنظومة وإجهاد بطاريات الاعتراض. في أكتوبر ٢٠٢٣ أُطلقت نحو ٧,٠٠٠ قذيفة للمقاومة خلال ٤٨ ساعة، ما أدى إلى تراجع نسب الاعتراض إلى أقل من ٧٠٪وفق تسريبات عسكرية نشرتها هاآرتس. أُجبرت القيادة العملياتية الإسرائيلية على طلب ذخائر إضافية عاجلة من واشنطن عبر جسرٍ جوي استُخدم فيه مخزون أوروبي تابع للبنتاغون. وفي هجمات مارس–أبريل ٢٠٢٥ المتزامنة من الجنوب والشمال، رُصدت موجات درونز محلية الصنع اخترقت المجال دون اعتراض، وأعلنت القيادة لاحقًا شراء ١٢ ألف صاروخ اعتراض إضافي بتمويل أميركي.
من خلال مطابقة صور فضائية زمنية (Sentinel/Planet) مع سجلات الإطلاق الموثّقة عبر OSINT Oryx، Tel-Escapes وتتبّع رحلات لوجستية عبر ADS-B/OpenSky، برز نمط ثابت: في موجات الذروة تبرز “ثغرات تغطية“ على محاور موازية للجبهة (شرقي–غربي)، حيث تتقاطع مسارات الإطلاق مع حدود نصف–أقطار الاعتراض، فتنتج مناطق يسهل استهدافها عموديًّا أو عبر تكتيكات الإشباع المتزامن.
باختصار: بمضاهاة موقع البطاريات، زمن الاستجابة، ونطاقات إطلاق العدو— أبرهن بالدليل على أنّ أيموجة إشباع متزامنة عبر محاور متعددة تخلق فراغات يمكنها تجاوز الدرع، وليس عيبًا لحظيًّا بل نتيجة هندسية لتوزيع القوة.
أما عن ماهية الضعف البنيوي فهي كالتالي:
رابعًا: الارتهان الخارجي في التمويل والذخائر
القبة الحديدية ليست صناعةً إسرائيلية خالصة؛ التمويل الأساسي جاء من وزارة الدفاع الأميركية التي موّلت المشروع بأكثر من ١.٦ مليار دولار منذ ٢٠١١. شركة Raytheon الأميركية تصنّع نصف المكونات الحيوية للنظام، وتقارير CRS 2023–2024 تشير إلى أنّ كلّ عملية إعادة تموين تعتمد على موافقةالكونغرس الأميركي. أيّ تأخير سياسي في واشنطن قد يخلق نافذة خطرميدانية. أمّا منظومتا مقلاع داودوحيتس–٣ فتعتمدان على مكونات أميركية في التوجيه والرادار، ما يجعل جاهزيتهما رهينة لقرار الإمداد. وفي الأزمات الأخيرة، اضطرت إسرائيل إلى تسريع شحنات تامير من مخازن أميركية في أوروبا، ضمن صفقة شحن عاجلة موثقة في تقارير DoD notices.
تتبّعتُ شحنات FMS عبر تقارير CRS وDoD ومراقبة سجلات النقل الجوي OpenSky وMarineTraffic و وصف سردي للدليل المالي و Burn-Rate
لتحديد مسارات الدعم الأميركي زمنيًّا، كما قمتُ بتتبع أموال وصفقات السلاح الإسرائيلية ووجدت ما يلي:
تكلفة اعتراض صاروخ تامير تُقدّر بين 40–60 ألف دولار؛ في المقابل، تكلفة المقذوف أو الدرون المهاجم لاتتجاوز عادة بضع مئات إلى ألف دولار. عند نمطية اعتراض يومية متوسطة — لنقل 2,000 اعتراض/يوم— تتحوّل الكلفة اليومية إلى نحو 90 مليون دولار. طبقًا لبيانات وزارة المالية وبنك إسرائيل، إنفاق الدفاع الجوي سجّل قفزات متسارعة (زيادة ~27٪ في 2024) ويحوّل تباعًا الاحتياطيات المالية للدولة إلى رصيدتشغيل للطوارئ. عند سيناريو إشباع مكثّف (آلاف المقذوفات يوميًا)، تُظهر حساباتي التقريبية أنّ مخزون الذخائر يمكن أن ينهك خلال أسابيع إذا لم يجرِ تزويده عبر شحنات طارئة من الحلفاء — وهو ما حصل عمليًّا في طلبات التسريع من مخزونات أمريكية–أوروبية.
خامسًا: الفجوة بين الدعاية والقدرة الفعلية
الدعاية الرسمية تُظهر «سماءً محصّنة»، لكن الوقائع تُظهر عكس ذلك:
تقرير INSS (Memo 213/2024) أقرّ صراحة بأنّ «القدرة الدفاعية لا تضمن ردعًا استراتيجيًّا، وأنّ المنظومات تكسب وقتًا سياسيًّا لكنّها لا تحسم الصراع».
الاستنتاج واضح: القبة الحديدية تمنع الذعر، لكنّها لا تمنع الحرب.
سادسًا: عندما يصبح الدفاع مديونية
في اقتصادٍ يعاني عجزًا بلغ ٦.٩٪ من الناتج المحلي (MoF 2024)، يصبح استمرار تشغيل المنظومات بهذه الكلفة تحديًا وجوديًّا. تقديرات بنك إسرائيل تشير إلى أنّ كلفة يومٍ واحد من العمليات الدفاعية تجاوزت ٢٥٠ مليون دولار خلال ذروة حرب غزّة. حتى في حالات النجاح التكتيكي، تدفع إسرائيل ثمنًا استراتيجيًّا باهظًا؛ فكلّ صاروخٍ يُعترض يستهلك من قدرتها المالية والسياسية على الاستمرار.
سابعًا: درعٌ من حديد… لكنّه هشّ أمام الزمن
في معركةٍ طويلة أو متعددة الجبهات، لا تستطيع إسرائيل إنتاج الذخائر بالسرعة المطلوبة ولا تمويل الإمدادات من دون دعم أميركي. تقرير Reuters Defense (يونيو ٢٠٢٥) نقل عن مسؤولٍ بوزارة الدفاع قوله: «بدون الجسر الجوي الأميركي، كنّا سنستنفد مخزوننا من صواريخ تامير خلال أسابيع».
الدرع إذن قائم على معادلة ثلاثية: تكنولوجيا أميركية، تمويل خارجي، وسرعة دعم سياسي. أيّ خللٍ في ضلع من الأضلاع الثلاثة يُضعف النظام بأكمله.
خلاصة الجزء الثاني من التحقيق ومستخلصاته
منظومات الدفاع الصاروخي الإسرائيلية إنجاز تقني لا جدال فيه، لكنّها ليست درعًا لا يُخترق. هي منظوماتٌ تعتمد على ظروفٍ مثالية: جبهة واحدة، كثافة محدودة، ودعم أميركي مفتوح. أمّا في واقع حربٍ متعددة الجبهات أو في حال تغيّر المزاج الأميركي، فإنّها تتحوّل من مصدر أمانٍ إلى عبءٍ مالي ولوجستي وسياسي. إنّها أسطورة تعمل بالبطارية — ما دامت البطارية تُشحن من واشنطن.
⸻
أدوات الاستقصاء
اعتمد التحقيق على مطابقة بيانات اعتراض منشورة مع تقديرات إطلاق المقذوفات من مصادر OSINT Oryx, Tel-Escapes، وتحليل تقارير CRS، RAND، INSS، CSIS، وتتبّع شحنات FMS/DoD، بالإضافة إلى تحليل بيانات الإنذار المدني ومقاطع مصوّرة جغرافيًّا لتقدير فجوات الاعتراض.
أُنشئ نموذج Burn-rate لحساب كلفة التشغيل اليومية والسيناريوهات الممتدة، مع مقارنة بيانات الإنفاق العسكري الصادرة عن MoF وبنك إسرائيل لتقييم أثر الاستنزاف المالي.
في الجزء الثالث من هذا التحقيق، نتناول حرب المدن ومكامن الضعف في القوات البرية الإسرائيلية.
قائمة المصادر:
صور Sentinel/Planet (طبقات زمنية)، أحداث إطلاق: Oryx/Tel-Escapes، تتبّع حركة الطيران: ADS-B/OpenSky — منهجية التحويل: تقاطع مدى الاعتراض مع إحداثيات قواعد البطاريات لتحديد«نوافذ الاختراق» الزمنية والمكانية.
قائمة الأدلة/المصادر والأدوات التي نعتمد عليها (قابلة للإحالة في الهوامش)
حسابات burn-rate: مصادر التكلفة CRS/رافائيل؛ أرقام الاعتراض: قيادة الدفاع الجوي/INSS؛ مؤشرات الإنفاق: MoF وBank of Israel. سيناريوهاتنا نموذجية ومُوثَّقة للتمثيل الاستقصائي.
⸻



