فكر
الكاتب: محمود الإبراهيم
في عصرٍ تتسارع فيه وتيرة التحوّل الرقمي، غدت وسائل التواصل الاجتماعي من أبرز أدوات التأثير في المجتمعات الحديثة، فهي لم تعد مجرّد منصات ترفيه أو تواصل شخصي، بل أصبحت فضاءات مفتوحة لتبادل الأفكار، وصناعة الرأي العام، والتأثير في القرارات السياسية والاجتماعية.
لقد منحت هذه الوسائل الأفراد صوتاً مسموعاً ومنبراً حرًّا للتعبير، ووفّرت للحكومات والمؤسسات الرسمية قنوات جديدة للتفاعل المباشر مع المواطنين، في وقتٍ تراجعت فيه مكانة الإعلام التقليدي الذي كان يحتكر المشهد لعقودٍ طويلة.
في الحقبة السابقة، كان مسؤولو النظام البائد يعيشون في برجهم العاجي، بعيداً عن نبض الشارع ومطالب الناس، فلم يكن التواصل بين المسؤول والمواطن إلّا عبر قنواتٍ رسمية مغلقة، غالباً ما تُعيقها البيروقراطية والروتين، وذلك لأنّ هدفهم غالبًا كان تحقيق مكاسب شخصية، والحصول على أكبر استفادة ممكنة من مناصبهم، دون أن يكترثوا لمسؤولياتهم في تحقيق مطالب المواطنين، فكانوا يتجنبون مخالطة الناس، معتبرين أنفسهم أعلى منزلة منهم، والاحتكاك بهم يحط من قدرهم.
ولكن هذا المشهد تبدّل بعد سقوط النظام، إذ شُكلت حكومة تكنوقراط جديدة أدركت أهمية وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها جسراً فعّالاً بين مؤسسات الدولة والمجتمع، فوظّف الوزراء صفحاتهم الرسمية كمنصّات للحوار والتفاعل، وأصبح المواطن شريكاً في النقاش العام، لا مجرّد متلقٍ صامت.
ولعلّ ما لفت الأنظار وأثار دهشة المواطنين هو تجاوب بعض الوزراء مباشرةً مع تعليقات المواطنين، فمثلا عبد السلام هيكل، وزير الاتصالات والتقانة، ردّ على مواطن علّق له طالبًا منه تركيب أبراج اتصالات في منطقته مؤكّداً أنّ “المكتب سيتواصل معه غداً”، وكذلك رائد الصالح، وزير إدارة الطوارئ الكوارث، علّق بأنّ العمل جارٍ على إعداد رقمٍ موحّد للطوارئ، استجابة لاقتراحٍ من مواطن. ولعلّ هذا الأمر كان جليًّا بشكل أكبر في منشور لمحمد البشير، وزير الطاقة، حيث ذكر أنّه اطّلع شخصياً على تعليقات المواطنين ورسائلهم بشأن إعادة المفصولين إلى العمل، واستجاب بالفعل بإعادة عدد منهم إلى وظائفهم.
هذه الردود البسيطة، التي قد لا تستغرق أكثر من بضع دقائق على الشاشة، كانت في الماضي تتطلب من المواطن شهوراً من المراجعات والانتظار في أروقة المؤسسات الحكومية، وغالباً دون نتيجة.
بعد أن أدرك الوزراء أنّهم موظفون لدى الدولة، ومن واجبهم العمل الحثيث لتحقيق إنجازات في هذه المرحلة المهمة، وأنّ عليهم كسب رضا الشعب الذي بات حريصا على الدولة التي شعر تجاهها أخيرًا بالمواطنة، تحوّلت حساباتهم الشخصية إلى منصّات لنشر ما يخص عملهم كوزراء، وتوثيق النشاطات الحكومية، وتسليط الضوء على الزيارات الميدانية والاجتماعات واللقاءات الدبلوماسية، وما أثمر عنها وما تم فيها.
وقد ساهم هذا الأمر في تعزيز الشفافية، إذ بات المواطن قادراً على متابعة أعمال الوزراء أولاً بأول، ومراقبة أدائهم، وهكذا انتقلت الرقابة الشعبية إلى المنصّات الرقمية، في مشهدٍ يعكس تطوراً لافتاً في الثقافة السياسية السورية.
مع اتّساع فضاء الحرية بعد سقوط النظام البائد، تداخلت حدود النقد البنّاء والإساءة الشخصية، ما دفع البعض إلى استغلال هذا الهامش الجديد لمهاجمة الوزراء وانتقادهم، ووصل الأمر إلى شن حملاتٍ مغرضة ضدّ بعض أعضاء الحكومة، بتحريك من حسابات موجهة، وهو ما دفع بعض الوزراء إلى الرد على الانتقادات والإساءات التي طالتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فمثلًا يسر برنية، وزير المالية، اعتذر لأحد منتقدي عمل المالية وبطء الإجراءات الحكومية وسيطرة البيروقراطية، مؤكداً أنّ الإصلاحات الإدارية قيد التنفيذ وستظهر نتائجها قريباً. أمّا نضال الشعار، وزير الاقتصاد، فقد واجه أحد المعلّقين الذي نعته بالفشل بقوله: “ساعدني لكي أنجح”. كما ردّ على من انتقد بقاءه في منصبه قائلاً: “أيامي في المنصب باتت معدودة”. هذه الردود العفوية عكست زهداً بالمناصب وشفافية في التعاطي وقرباً من الناس، وإلغاء للنظرة الفوقية التي كان ينظر بها المسؤولون إلى الناس.
غير أنّ بعض الإساءات تطلّبت ردّاً حازماً وواضحاً، كما حدث في مع رجل الأعمال نضال عبود الذي وجّه إساءاتٍ شخصية إلى وزير الإعلام حمزة المصطفى وسياساته، مستخدماً ألفاظاً نابية لا تليق بلغة الحوار العام. وقد ادّعى عبود أنّ الوزير رفض تبرعه بمعدات قناة أورينت التي تبلغ قيمتها، وفق زعمه، خمسةً وعشرين مليون دولار، وهو ادّعاء يفتقر إلى المنطق، إذ إن كبرى القنوات العربية لا تصل قيمة تجهيزاتها إلى هذا المبلغ، فضلاً عن أنّ قناة أورينت معروفة بمعداتها القديمة التي لا تتجاوز قيمتها نصف مليون دولار في أفضل التقديرات.
هذا التناقض أثار تساؤلاتٍ عديدة حول مدى مصداقية تصريحات عبود، بل وحتى حول حقيقة ما يعلنه من “تبرعات” في حملاتٍ أخرى كـ حملة الوفاء لإدلب.
وقد وجد الوزير حمزة المصطفى أنّ الصمت في هذه الحالة غير جائز، فاختار أن يرد عبر وسائل التواصل الاجتماعي ببيانٍ مفصّل فنّد فيه مزاعم عبود، موضحاً أنّ هناك توصية تمنع قبول أيّ تبرعاتٍ تقنية أو تشغيلية من الأفراد في الوقت الراهن، حفاظاً على أمن المؤسسات الإعلامية من احتمالات التجسس أو الاختراق، ولضمان استقلاليتها عن أيّ نفوذٍ أو مصالح شخصية.
لاقى هذا الرد دعماً واسعاً من المواطنين الذين رأوا في موقف الوزير التزاماً بمبدأ سيادة القرار الإعلامي ورفضاً لأيّ تبعيةٍ خارجية.
وما يُحسب للوزير أنّه التزم في رده بأسلوبٍ رصينٍ ولبق، بعيدٍ عن الانفعال أو الإساءة، مكتفياً بعرض الحقائق وتفنيد الأكاذيب، مع التلميح إلى إمكانية اتخاذ إجراءاتٍ قانونية بحقّ من يتجاوز حدود النقد إلى التشهير. في المقابل، واصل عبود ردوده المسيئة عبر منشوراتٍ لاحقة، متطاولاً على الوزير والعاملين في وزارته، بل وصل به الأمر إلى الدعوة لإلغاء وزارة الإعلام بالكامل، في تصرفٍ فسّره كثير من المعلّقين بأنّه نابع من مشاعر شخصية وخيبة أمل بعد فشله في تحقيق طموحه بالوصول إلى المنصب ذاته.
وقد زاد من حدّة موقفه ظهوره في مقابلة على قناة الجديد، حيث زعم أنّ الوزير لا يمثل الحكومة السورية، في تكرارٍ لأسلوبه العدائي الذي قوبل باستنكارٍ واسع من الرأي العام.
ما يميّز تجربة الحكومة السورية الجديدة في هذا المجال هو اعتمادها أسلوباً بسيطاً قريباً من الناس. فقد بدت لغة الوزراء في منشوراتهم وتعليقاتهم إنسانية وغير متكلّفة، تميل إلى الدعابة أحياناً وإلى الودّ في كثير من الأحيان، من ذلك ردُّ نضال الشعار، وزير الاقتصاد، على أحد المعلّقين مازحاً: “لا داعي لأن تتخيل، فأنا منك ومعك وفيك”، وكذلك هند قبوات، وزيرة العمل والشؤون الاجتماعية، ردّت على طلب أحد المواطنين بكلمة “حاضر”، ما عكس احترامها لرأي المواطن وطلباته. أمّا عبد السلام هيكل، وزير الاتصالات، فاختار أن يردّ على شكوى تتعلّق بسوء الإنترنت مستخدماً كلمات من أغنية شعبية بطريقةٍ طريفة جعلت الردَّ ينتشر بسرعة، وأضفت طابعاً إنسانيًّا على حضوره الرقمي.
وبذلك نجد أنّ تجربة الوزراء السوريين في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت أنّ التحوّل الرقمي لا يقتصر على التكنولوجيا فحسب، بل يمتد إلى الذهنية الإدارية ذاتها. فقد بدأت العلاقة بين المسؤول والمواطن تتخذ شكلاً أكثر مباشرة وإنسانية، بعد أن كانت جامدة ومتحجّرة لعقود.