سياسة

اتفاق 10 آذار على المحكّ: اشتباكات حلب ودير حافر تعيد خلط الأوراق

أكتوبر 14, 2025

اتفاق 10 آذار على المحكّ: اشتباكات حلب ودير حافر تعيد خلط الأوراق

شهدت الساحة السورية خلال شهري أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر 2025 تصاعداً نوعيًا في التوترات الميدانية بين قوات الحكومة الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، حيث اندلعت سلسلة من المواجهات بدأت في محيط دير حافر بريف حلب الشرقي، ثمّ امتدت إلى داخل مدينة حلب، لا سيما في حيّي الشيخ مقصود والأشرفية. هذه التطورات لم تكن أحداثاً أمنية معزولة، بل جاءت في لحظةٍ سياسية حساسة ترتبط بمصير اتفاق 10 آذار/مارس 2025، الذي يُعدّ أحد الركائز الأساسية في صياغة العلاقة بين الطرفين خلال المرحلة الانتقالية.

 

بدأ التصعيد في الأسبوع الثالث من شهر أيلول/ سبتمبر، عندما شهدت منطقة دير حافر اشتباكات محدودة بين الطرفين، اتسمت باستخدام المدفعية والأسلحة المتوسطة واستهداف مواقع متقابلة. ورغم أنّ هذه المواجهات لم تؤد إلى تغييرات ميدانية ملموسة، فإنّها شكّلت اختباراً عمليًّا مبكراً لآليات ضبط وقف إطلاق النار المنصوص عليها في الاتفاق، وأظهرت أنّ حالة انعدام الثقة المتبادلة ما زالت قائمة، وأنّ كلّ طرفٍ يسعى إلى تثبيت معادلات ميدانية قبل الدخول في أيّ ترتيباتٍ تنفيذية أوسع.

 

في نهاية الشهر نفسه ومع بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر، تصاعد التوتر بشكل أكبر عندما اندلعت مواجهات داخل مدينة حلب، في الشيخ مقصود والأشرفية، وهما حيّان يتمتعان بخصوصية إدارية وأمنية منذ سنوات، حيث حافظت قسد على وجود إداري وأمني فيهما رغم خضوع المدينة عموماً لسلطة الحكومة الانتقالية. وقد تطورت الخلافات المحلية حول نقاط التفتيش وترتيبات الأمن إلى اشتباكات استخدمت فيها الأسلحة الرشاشة وقذائف الهاون، ما أدى إلى سقوط ضحايا من الطرفين ونزوح عشرات العائلات من الأحياء المتوترة نحو مناطق أكثر أماناً. هذه المواجهات داخل مدينة مركزية كشفت هشاشة الترتيبات الأمنية في المناطق الحضرية، وأكدت أنّ الإشكاليات بين الطرفين ليست محصورة في الأطراف، بل تمتد إلى قلب المدن الكبرى، حيث تتداخل السلطات بصورة معقدة.

 

إلى جانب ذلك، تُظهر المعطيات الميدانية والسياسية أنّ هذه الخروقات لا يمكن قراءتها بمعزلٍ عن الانقسامات الداخلية ضمن قسد نفسها، إذ توجد تيارات داخلية غير راضية عن اتفاق آذار/ مارس 2025، وتعتبره مقيداً لمصالحها. ولذلك، تسعى هذه التيارات إلى افتعال مشكلات ميدانية متكررة في أكثر من منطقة، من أجل إضعاف خطّ الاتفاق الهش أصلاً، وخلق أرضية غير مستقرة تدفع باتجاه إعادة التفاوض وفق شروط جديدة تتناسب مع رؤيتها السياسية والعسكرية.

 

تأتي هذه التطورات في سياق سياسي تأسس قبل أشهر، عندما وقّعت الحكومة الانتقالية وقسد اتفاقاً في العاشر من آذار/ مارس 2025 برعاية أمريكية. نص الاتفاق على مجموعة من المبادئ السياسية والعسكرية والإدارية التي تهدف إلى إعادة دمج مناطق الإدارة الذاتية ضمن إطار الدولة السورية الجديدة، من خلال ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة السياسية، والاعتراف بالمجتمع الكردي كمكوّن أصيل يتمتع بكافة حقوقه الدستورية، ووقف إطلاق النار على كامل الأراضي السورية، ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال وشرق البلاد ضمن هياكل الدولة، وضمان عودة النازحين، ودعم الدولة في مكافحة فلول النظام السابق، ورفض خطاب الكراهية والانقسام، وأخيراً تشكيل لجان تنفيذية مشتركة لمتابعة تطبيق الاتفاق ضمن جدول زمني لا يتجاوز نهاية العام 2025.

 

غير أنّ مراجعة مسار تنفيذ الاتفاق خلال الأشهر الستة التالية لتوقيعه تُظهر بوضوح أنّ التقدم كان متفاوتاً بين البنود، وأنّ الجوانب الرمزية والسياسية الخطابية شهدت تطبيقاً جزئيًّا، في حين بقيت البنود الجوهرية الميدانية والمؤسساتية معطّلة إلى حدٍ كبير. فعلى المستوى السياسي، تحقق قدر محدود من المشاركة المتنوعة في المؤسسات الانتقالية، حيث جرى إشراك شخصيات من خلفيات متعددة في بعض اللجان السياسية والدستورية، لكن هذا الإدماج بقي جزئيًّا ومتركزاً في العاصمة ومناطق محددة، دون أن يمتد إلى البنى المحلية في الشمال والشرق.

 

أمّا فيما يتعلق بالبند المتصل بالاعتراف الدستوري بالمجتمع الكردي وضمان حقوقه، فقد جرى تثبيت هذا المبدأ في الخطاب السياسي الرسمي للحكومة، غير أنّ البنية الدستورية الجديدة لم تُستكمل بعد، ما جعل هذا البند أقرب إلى إعلان نوايا منه إلى إطار قانوني ملزم. ويُضاف إلى ذلك استمرار الخلاف حول حدود الإدارة المحلية الكردية وصلاحياتها، وهو خلاف حال دون ترجمة هذا الاعتراف إلى ترتيبات مؤسسية دائمة.

 

بند وقف إطلاق النار، الذي يُفترض أن يشكل الأساس لمرحلة ما بعد النزاع، شهد في البداية التزاماً نسبيًّا تمثل في تراجع العمليات الميدانية خلال الربيع والصيف. غير أنّ هذا الالتزام بدأ بالتآكل مع حلول الخريف، إذ كشفت اشتباكات دير حافر وحلب عن غياب آليات رقابة ميدانية فعّالة، وعدم تشكيل اللجان المشتركة المنصوص عليها لضبط الخروقات، إضافة إلى بقاء الشكوك المتبادلة، ممّا جعل أيّ احتكاكٍ محلي مرشحاً للتصعيد السريع.

الأكثر تعقيداً كان البند الرابع المتعلق بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية، بما يشمل إدارة المعابر وحقول النفط والغاز والمطارات. هذا البند لم يشهد أيّ تقدمٍ يُذكر، إذ واجهت ترتيباته عقبات تتعلق بالخلاف على تسلسل الخطوات، حيث طالبت الحكومة الانتقالية باستعادة السيطرة على الموارد أولاً، بينما اشترطت قسد ضمانات سياسية وإدارية واضحة قبل أيّ إعادة انتشار عسكري.

 

في ملف عودة النازحين، تحقّق بعض التقدم في المناطق الخاضعة مباشرة لسيطرة الحكومة، خصوصاً في ريف حلب، حيث سُجلت عودة جزئية لبعض العائلات. لكن هذا المسار بقي محدوداً في مناطق الإدارة الذاتية، نظراً إلى استمرار وجود هياكل أمنية محلية مستقلة وصعوبات التنسيق الإداري.

 

أما البندان السابع والثامن المتعلقان برفض خطاب الكراهية وتشكيل لجان تنفيذية مشتركة، فقد بقيا إلى حدٍّ كبير حبراً على ورق. فالتراشق الإعلامي بين الطرفين تصاعد مجدداً عقب أحداث أيلول/ سبتمبر، واللجان التنفيذية التي كان يفترض أن تتابع التطبيق المرحلي لم تتشكّل بالصورة المتفق عليها، ما جعل الاتفاق يفتقر إلى أداة تنفيذية فاعلة يمكنها تجاوز التعثر السياسي.

 

تكشف هذه القراءة أنّ الاتفاق واجه تعثراً في جوهره الميداني والمؤسساتي، نتيجة تضافر عدة عوامل، أبرزها استمرار انعدام الثقة، وتضارب الأولويات السياسية بين الطرفين، وتداخل الحسابات الإقليمية والدولية. وبهذا المعنى، فإنّ المواجهات في دير حافر وحلب لا يمكن النظر إليها كأحداثٍ طارئة، بل هي نتيجة مباشرة للتأخر في تنفيذ الترتيبات الأمنية والإدارية التي كان من المفترض أن تخلق أرضية مشتركة تمنع مثل هذه التصعيدات.

 

إنّ المسار المستقبلي للعلاقة بين الحكومة الانتقالية وقسد سيتحدد بدرجةٍ كبيرة وفق ما إذا كانت الأطراف المحلية والدولية قادرة على إعادة تفعيل بنود الاتفاق بروحٍ تفاوضية جديدة، أو ما إذا كان التعثر الراهن سيتحوّل إلى حالة بنيوية تؤدي إلى تفكك الاتفاق جزئيًّا أو كليًّا. وإذا لم تُتّخذ خطوات عملية لإحياء اللجان التنفيذية وتثبيت ترتيبات الدمج الميداني والإداري، فإنّ احتمالات تكرار الاشتباكات وتوسّعها ستزداد، ما يهدّد بإعادة فتح جبهة داخلية كانت قد شهدت مؤقتاً قدراً من التهدئة.

شارك

مقالات ذات صلة