مجتمع

عندما كانت النساء السّوريّات موفدات لتعليم ولادة الحياة الطبيعيّة

أكتوبر 13, 2025

عندما كانت النساء السّوريّات موفدات لتعليم ولادة الحياة الطبيعيّة

الكاتبة: مروة منصور

حول الأمهات في سوريا لا سيما الأمّ التي تودّع قبورَ أبنائها في تركيا، نتساءل: ما شكل الأمومة في الثّورة السُّوريَّة؟

انتحبتْ فوق بلاط القبور، كانت دموعها رشقات تهطلُ من الفيديو الذي نشرته وهي تودّع قبور أولادها، وتُلقي عليهم آخر حنان الأرض.

انتشر هذا الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي للسيّدة السُّوريَّة التي ودَّعَت قبور أولادها الذين لاقوا منيتهم في زلزال شباط 2023 في تركيا، في حين تقرّر الأمّ العودة إلى سوريا.

بنبرة الأم الحاملة لحنان العام كانت تناديهم بين كلّ جملة والتّالية يا أمي، يا ابني، يا بنتي.

من سيزوركم يا أمّي؟

من سيبقى معكم يا أمّي؟

لكم الله يا أمّي.

آخر يوم يا ماريّا

وإن شاء الله بشوفكم بالجنّة

يا مؤمن بوّس لي ماريّا كثير..

وكأنَّها تطفحُ ألماً، وتؤدِّي خواتيم الأمومة التي تعرفها حتى في كلماتها لمجرَّد أنَّها كلمات لا يسمعها إلّا ولدٌحَضَنَه الثَّرى، بعد حضنِ أمِّه.

تلك السيدة الأمّ واحدةٌ من نساءٍ سوريّاتٍ كُثُر، أجريْن َمن دموعهنَّ أنهاراً، ليست بغزارةِ الفرات، بل المحيط وما أحاطَ به.

فبينما كانت نساء العالم تستيقظ على طاولات العائلة وأولادها من حولها، عرفت المرأة السّوريّة طاولات التَّهجير والشَّتات والنّزوح القسريّ والتّغييب القسريّ والتعنيف والاغتصاب والقتل والتَّرهيب.

لا يكاد يخلو بيتٌ أو حيٌّ من ولدٍ مفقود، أو على قوائم الانتظار لا هو فوق الأرض ولا تحتها.

أحصي عدداً على عيّنةٍ صغيرةٍ، بل متناهيةِ الصِّغر في حيٍّ أسكنُ فيه، يُعدّ آمناً أو لم يلقَ قصفاً كما غيره من أحياء سوريا ومدنها، فأرى البيوتَ كلَّها لديها أمٌّ مكلومةٌ، نتيجة دكِّ الثورة بالبراميل، وتحدِّي بشار ببقائِهِ على جثث الشَّعب التي انبثقت من الأرضِ بنادقَ تشتهي الموت للحريّة.

لم تهنأ المرأة السّوريّة إن كانت طالبةً أو والدةً أو وَليدةً، ولم تكفِها تهديدات الاغتصاب إن رفعت صوتها الحرّ، بل هُدِّدت بكلِّ ما يمكن أن يُبزغَ الدّمع من مقلتيها.

وعلى صعيدٍ آخر، في تحدّياتٍ اقتصاديّةٍ قاتلةٍ وَمنهكة، لم يكن بإمكان المرأة في الثَّورة السُّوريَّة إلَّا أن تسدَّ ثغرات الحاجة لانتشالِ ما تبقَّى من حياتِها وحياة عائلاتها.

فعملت النِّساء سائقات شاحنة، وعملْنَ في الخياطة، والحِياكة، عملْنَ في الطَّبخِ والتّنظيفِ، وفي معامل البسكويت والغذائيَّات، وفي معامل الإسمنتِ، والبلاستيك، وفي أماكنَ لم تكن إلّا للرّجال.

تحوّلْنَ إلى رجالٍ يمارسْنَ أنوثتهنَّ ليلاً بالبكاء والعَويل والوقوف على نوافذ الانتظار والفرج، ويشمِّرْنَ فجراً عن سواعدهنَّ المتشرِّبةِ طبقةً خشنةً ليجدنَ سبيلاً إلى الحياة.

لم يكنّ يسمعنَ بنشراتِ النَّسويّةِ وأغراضِها، ومؤتمراتها، وحلقاتِ تكوينها في أفخم الفنادق، أو على إطلالاتٍ بحريّةٍأو خلفَ الشَّاشاتِ، بل كنّ نساء سوريا الحرائر اللَّواتي أقمْنَ العَويَل والمآتم حتى يرتميَ صرحُ هُبَل إلى الأرض.

هنَّ اللَّواتي بُحَّتْ سمّاعات الهواتف من نبراتِ شوقهنَّ، واللّواتي زغردْنَ على رؤوسِ شهدائهنَّ، وهنَّ اللَّواتي صارعْنَ للبقاء، بكلِّ مَا وهبتهنَّ الأرحام أن يلدْنَ الحياةَمرَّاتٍ إثر كلّ قتل وغياب وقصف وجوع وحرمان وتعبٍ لم يَستسلم بسهولة.

أمّا من شطرتِ الحياة أنصافَ قلوبهنّ وعقولهنّ بين جغرافياالأوطان، وشَتات المنافي، عن النِّساء اللواتي قاوَمْنَ غربتهنّ ووقفْنَ على أرضٍ مهترئة، بآمالٍ سُحقت خلف الشّمس، لكنهنّ ولدنَ من جديد في بلاد لم تعرفهنّ ولم يعرفْنَها، ثمّ تفاوضْنَ معها على التأقلم، وعلّمنَ تلك البلاد الولادة الطبيعيةّ للحياة كفعلٍ يمارسه السوريون على مختلف الأجناس، رجالاً ونساء.

فالآن، كيفَ يتّسع المدى أمام صوت النساء في سوريا، وتمثيلهنّ خير تمثيل، وإتاحة وجودهنّ في مناكب الدولة ووظائفها؟

ثمّ، هل ننكر أنّ تضحيات نساء سوريا كانت على الهامش؟ أينَ محطّات الاستراحة الموعودة لكلِّ النِّساء المكلومات؟ ماذا لأمِّ الشّهيد؟ ماذا للفقيرة؟ ماذا لأعمارهنَّ المتقدِّمة وهنَّ لا يلبثن يركضنَ دون توقُّفٍ وبوهْنٍ؟ أما آنَ لسوريا أن ترفع نساءها على العرشِ الذي يستحققْنَه؟

شارك

مقالات ذات صلة