مجتمع

أجيال الخوف وندوب الاستبداد: كرامة مهدورة في المدارس السورية

أكتوبر 12, 2025

أجيال الخوف وندوب الاستبداد: كرامة مهدورة في المدارس السورية

ليست المدرسة مجرّد مكانٍ لتلقين المعارف، بل هي المجتمع المصغّر والمختبر الأول للطفل الذي تختبر فيها ذات الطفل حتمية التفاعل خارج نطاق الأسرة. داخل هذا العالم الصغير، يبدأ الطفل بفهم ذاته والعالم من حوله، ويتعلّم كيف يُقيم العلاقات، وكيف يتعامل مع السلطة، وكيف يوازن بين الحرية والمسؤولية، وبين الانضباط والاحترام.

لكن عندما تُصادر المدرسة وظيفتها التربوية وتتحوّل إلى أداةٍ للضبط والخضوع، فإنها تُنتج مواطناً خائفاً لا مفكّراً، وتغدو منشأة لتصنيع الطاعة، وإنّ أيّ انحراف في هذا الفضاء، يُشكّل تهديداً بنيوياً لا ينحصر ضمن أسوارها، بل يمتد في النسيج المجتمعي الأوسع.

منذ بدايات القرن العشرين، رأت الأنظمة الاشتراكية في التعليم وسيلة لتشكيل الإنسان الجديد الملتزم بالعقيدة السياسية. ففي الاتحاد السوفييتي، على سبيل المثال، صُمِّمت المدارس وفق نموذجٍ موحّد يهدف إلى مراقبة السلوك بما يلبي غايات الأنظمة في الانصياع للقواعد الصارمة، وحتى نمط تفاعل المعلم مع الطالب، كانت كلّها تهدف إلى تكريس سلطة هرمية تبدأ من المدرسة وترافق الإنسان في مراحل حياته.

قدّم عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930-2002) تحليلات بنيوية عميقة لدور التعليم في المجتمعات الحديثة، وخلص إلى أنّ الدولة الاستبدادية تخفي وراء واجهة “التعليم” سياسات غير مرئية تنتهي عند نتيجة نهائية: قمع مدمج في التصميم التعليمي والإداري، لا مجرد ممارسات شخصية من المعلمين، وبناء عليه تبقى هذه السلوكيات رواسب في المجتمع حتى بعد سقوط الأنظمة المتسببة بذلك. في سوريا، سار النظام البعثي على النهج ذاته، ولذلك شاهدنا ما تداولته الصفحات الرقمية في الأيام الماضية من تسجيلات مصورة انتشرت على نطاق واسع ولاقت استنكاراً كبيراً، لمعلمتين تضربان طلاباً في مدرستين مختلفتين.

في هذا النمط الذي عاشته سوريا طوال عقود تحت حكمي الأسد الأب والابن، اكتسب البعض قناعة بأنّ النجاح والقيمة الاجتماعية مرتبطان بالامتثال للتسلسل الهرمي للسلطة. وتضمن هذه الرواسب إعادة إنتاج النمط السلطوي اجتماعيًّا حتى بعد انهيار الأنظمة السياسية التي أنتجته، حيث يستمر نتاج هذا النظام في ممارسة السلوك السلطوي تلقائياً داخل مؤسسات المجتمع، ومنها المدرسة.

في بلد مثل سوريا تعرض لعنف ممنهج ومكثف ومستمر من النظام ضد الشعب، تتلوث البيئة التعليمية القمعية أكثر، وتتحول المؤسسة التعليمية، التي كان يُفترض أن تكون “ملاذاً آمناً” إلى مُضخّم للصدمة عندما يستمر فيها إرث القمع المتجذر.

وتتعقّد الحالة بسبب تبعات الحرب من الفقر وسوء الحالة المادية والاجتماعية والمعيشية للمعلمين وانشغالهم في النجاة وتعرضهم لهذا الضغط المستمر يكون على حساب العطاء المطلوب منهم، وكذلك يكون الأمر عند الأطفال الذين عاشوا ويلات تفوق قدراتهم على التحمل وتترك فيهم ندبات عميقة، فيتحوّل كل ذلك إلى دائرة مفرغة من القلق وعدم التركيز والتمرد والتعنيف.

نشأ جيلٌ كامل في ظل القصف والنزوح والفقدان والمشاهد الدموية، وبحسب تقارير اليونيسف فإنّ أكثر من نصف الأطفال السوريين عايشوا تجارب عنف مباشر أو غير مباشر، ووصلت معدلات اضطراب ما بعد الصدمة إلى 55% بين الأطفال في بعض المناطق، وبالتالي فإنّ أعراض التمرد في هذه البيئة تكون متوقعة وبناء عليه تزداد احتمالات العنف الممارس من قبل المعلم وحدته، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ معظم الصفوف الدراسية بسبب عدد المدارس المدمرة تضم أكثر من 50 طالباً، وهو عدد كبير يصعب ضبطه ويسبب ضغطاً أكبر على المعلم.

وبالمجمل، من نتائج الحرب الكارثية التطبيع مع العنف بوصفه فعلاً شائعاً مسموحاً به، وفي السياق ذاته فإنّ تدمير كرامة الإنسان سواء طفلاً أو كبيراً يترك المجال أوسع أمام المعلم المعنِّف، فلا الطالب يدافع عن نفسه أو يشتكي ولا الأهل يكترثون لما تعرض له ابنهم.

بعد سقوط النظام كان يفترض أن تستعيد المدرسة دورها الطبيعي بوصفها البيئة الآمنة التي تحتضن الطالب والمكان الذي يطور شخصيته ويمنحه الفرصة للتعلم والاكتشاف والنمو بحرية وكرامة، غير أنّ الإرث القمعي المتجذر ما زال يلقي بظلاله الثقيلة على الكثير من المدارس في مختلف مناطق سوريا ومازال الكثير من المعلمين يرون أن دورهم هو ترويض الطالب وإخضاعه بدلاً من إرشاده وتوجيهه وحمايته، وأن الانضباط والالتزام يتحقق فقط من خلال القوة وفرض السلطة لا بالاحترام والتواصل الفعال ورسم القواعد والضوابط بطريقة آمنة وواضحة تراعي مصلحة الطالب وتحقق العدالة والتوازن في البيئة التعليمية.

في ظل هذا الواقع فقد المعلم دوره الأسمى كمربٍّ ونموذج يُحتذى به قبل أن يكون ناقلاً للمعرفة خاصة في المراحل العمرية المبكرة التي يتعلم الطفل فيها من خلال الملاحظة والتجربة أكثر ممّا يتعلم من التلقين والكلام.

ما الآثار التي تترتب على الممارسات القمعية في البيئات المدرسية؟

على الصعيد الأكاديمي تؤثر الممارسات القمعية على الدافع والرغبة، وتتحوّل البيئة المدرسية من بيئة محفزة إلى بيئة منفّرة ومصدر تهديد، وتحوّل تركيز الطفل على “النجاة” وتجنب الأخطاء بدل الاكتشاف والمبادرة والرغبة الحقيقة في التعلم، كما يثبّط الخوف التفكير الإبداعي والفضول الذي يعد من أهم دوافع التعلم والاستكشاف. 

إضافة إلى أنّ التوتر والقلق وفقدان الأمان يؤثر بشكل مباشر على العمليات المعرفية مثل الإدراك والذاكرة والتركيز والتفكير.

على الصعيد الاجتماعي والنفسي يسبب القمع والعنف مشاكل ثقة بالنفس وضعف تقدير الذات ومشاكل مثل القلق المزمن والاكتئاب، وقد يسبب العنف أضراراً جسدية مباشرة أو آلاماً جسدية غير مفسرة ناتجة عن مشاعر القلق المزمن والخوف، ولهذا يمكننا تذكر الكثير من الأطفال الذين يعانون من آلام في البطن في الصباح دون وجود مرض واضح أو سبب عضوي، وهو ما كان يظنه معظم الآباء ادعاء أو تمثيلاً.

يتحوّل القلق والضغط الداخلي إلى أعراضٍ جسدية غير مفسرة وهي مؤشرات على أنّ الجهاز العصبي للطفل في حالة تأهب قصوى دائمة، ما يجعله غير قادر على الاستقبال المعرفي الهادئ.

إنّ تعرض الطالب لتعنيف علني في المدرسة على مرأى باقي التلاميذ، كما شاهدنا في التسجيلات المنتشرة أخيراً، ينجم عنه تنامي مشاعر الخجل والعار وبالتالي الانسحاب والميل إلى الانطوائية، أو يظهر الطالب الذي تعرض للتعنيف والظلم سلوكيات عدوانية ويتمرد على الواقع ويصبح هو نفسه معنِّفاً لأطفال آخرين أصغر أو أضعف. 

لأنّ العنف الممارس من قبل المعلم يسبب تشوهات معرفية، مثل أنّ القوة هي أداة لفرض الاحترام، تتسع دائرة العنف في البيئات التعليمية وتمتد لتشمل العنف في عدة بيئات. 

مع الوقت تتحوّل مشاعر الخوف من المعلم إلى مشاعر كراهية وحقد على المعلم وعلى البيئة التعليمية التي تسمح بذلك ولا تحمي الطفل. إضافة إلى انهيار منظومة القيم والمبادئ وفقدان الإيمان بالعدالة بسبب التناقض بين الكلام النظري وشعارات الحرية والكرامة، بينما تهان كرامة الطالب بممارسات يومية.

المعلم أيضاً ضحية ممارسات النظام البائد 

يجب النظر إلى المعلم على أنّه ضحية للنظام قبل أن يكون جلاداً، فسنوات الاستبداد الممنهج التي حرمت المعلم من الكرامة المهنية، والتقدير المادي، والاستقلالية الفكرية، تصعّب على الفرد الذي يُعاني من إشباع الحاجات الأساسية (كالأمان المادي والتقدير) أن يُمارس التسامح والتعاطف، وهي ضرورات للتربية الفعالة. هذا الفشل المنهجي يدفع المعلم للتنفيس عن ضغوطاته عبر ممارسة السلطة الوحيدة المتاحة له: سلطة القمع على الطالب.

هذه الممارسات دمرت جوهر العملية التعليمية، ومن هنا تنبع الحاجة الملحة لإصلاح ما دمره النظام من خلال تقدير المعلمين وتأمين حياة كريمة وتمكينهم من ممارسة دورهم بكرامة واستقلالية بعيداً عن التهديد الإداري والولاءات الإيديولوجية، إضافة إلى برامج التأهيل والتدريب التي تمنح المعلم المهارات والأدوات اللازمة للتواصل الفعال والرحمة والتعاطف وفهم الاختلافات واحترام الفروق الفردية بين الطلاب.

سوريا اليوم تقف على أعتاب مرحلة بناء جديدة، والبناء هنا لا يرتكز فقط على إعادة ترميم المدارس والشوارع والمنازل المدمرة؛ فالبناء الحقيقي يبدأ من بناء الإنسان نفسه ومن ترميم العقول التي أخضعت لسنوات طويلة للخوف والقهر والقمع. 

ولأنّ المدرسة هي النواة التي يُعاد فيها تشكيل وعي الأجيال، من المهم أن تصان كرامة الفرد فيها، وهذا ليس امتيازاً يمنح للطالب حق أساسي وعامل جوهري لنجاح العملية التعليمية.

لذلك من المهم توفير قنوات إبلاغ آمنة يلجأ إليها الطالب في حال تعرضه للإساءة دون الخوف من الانتقام والإقصاء.

فالبيئات التعليمية هي التربة الخصبة التي تُزرع فيها القيم وتُصاغ فيها المفاهيم وتُرسخ فيها المبادئ التي تنهض بالمجتمع، والتغيير الحقيقي يبدأ منها لذلك من المهم جداً أن يشعر الطالب بالتقدير والاحترام في البيئة التعليمية، ويجب أن يفهم الطالب حقوقه ويدرك واجباته ومسؤولياته والتزاماته نحو هذه المؤسسة. 

أيضاً على البيئة المدرسية أن تمنح التلاميذ شعور الثقة بالعدالة، وأن توفر دعماً نفسيًّا فعالاً وحقيقيًّا يشمل المعلمين والطلاب مما يساهم في نهضة التعليم والمجتمع

شارك

مقالات ذات صلة