مدونات

من مذكرات النزوح

أكتوبر 10, 2025

من مذكرات النزوح

الكاتبة: هدى عبد المنعم الوادية

في نزُوحي الأول والطويل عن المدينة، كنت أتشبّث بذاكرة الأماكن، أراجعها كلّ ليلة كمن يجهّز نفسه لاختبار في اليوم التالي، لكن موعد الاختبار تأجّل مرارًا وتكرارًا، ومضى من عمري زمنٌ طويل حتى ظنّنت أنّني سأشيب وأنا أستذكر دون أن أتحقّق. لكنه الله الرحيم، لا يُخيب عبده.

في الطريق الذي تغيّرت ملامحه، استعنت بظلام الليل لأخفي دموعي، وتحدّثت بالإشارة كي لا يفضحني اهتزاز صوتي. لكن مع اقترابي من حدود غزّة، وازدياد توغّلنا في الداخل، تحوّلت رؤيتي للدمار إلى فرحة، لا بالخراب الذي كنت أتوقّعه، بل لأنّهم أبقوا لي على بعض اللافتات والواجهات التي عرفتُ منها ملامح الشوارع. كطفلةٍ صغيرة تهلّل كلما رأت آيس كريم، هلّلتُ وأطلقت ضحكاتي المشوبة بدموعٍ لم أعد أكترث بإخفائها.
“مرقنا عن الزيتون! هنا الدهشان! صرنا بالثلاثيني! هاي الجندي! قرّبنا نوصل!”
كانت ذاكرتي وذكرياتي كلّ ما أملك، استعنت بها على صعوبة الأيام، وكان نجاحي في التذكّر أعظم مواساة أقدّمها لنفسي.

لأيامٍ طويلة تلت، مشيت في الشوارع وأنا أحتضنها، كانت لحظات لا تقل شاعرية عن لقاء حبيبٍ لا تشبع من رؤيته، وكلما دخلت شارعًا جديدًا كان كأول دخولي المدينة؛ أبكي وأضحك، وأستذكر أيامي فيه، لكن هذه المرة لا لأتحسّر، بل لأُطمئن قلبي أنّنا عدنا، وعادت الأيام والأماكن، وإن كانت بخراب.

لم يكن كلّ هذا إلا لأنّني كنت أرى في النزوح كابوسًا وأقول: سأفيق منه حتمًا، فأجد نفسي في غرفتي وعلى سريري، أستعيذ وأكمل نومي.
أذكر في آخر أيام النزوح ونحن نُحضّر أنفسنا لليوم الأكبر، يوم العودة، كنا نتحدث عن آمالنا وأحلامنا وما سنستعيده بعد أن حُرمنا منه وعرفنا قيمته. قلت بعد لحظة شرود: “بس بدي غرفة وسرير”. سخر الجمع مني لبساطة حلمي: “مش طماعة!” لكنّني والله طمعت بهما، وجلّ ما أسعدني بالعودة أنّني عدت إليهما، وكلّما حادثت أحدًا بعدها كان أول اطمئنانهم عن سعادتي بتحقيق حلمي. وقد كانت لي كما تمنّيت وحلمت. رضيت واستكفيت، ولم أطمح بعدها إلى شيء.

طوال ثمانية أشهر، كنت أستيقظ كلّ يومٍ وأنا أتحسّس وجودي، أنظر إلى النافذة لأتأكد أنّني في مدينتي. هو صباح الخير إذن. أتعطّر وأعطّر الغرفة بعطري الخاص، كأنّني أردتها جزءًا مني.
كان كلّ شيء يسير بوتيرةٍ ناعمة، هادئة، أو هكذا أردته أن يكون؛ كوجبةٍ تستطيبها النفس فتطيل الجلوس على المائدة، وتذهب بعيدًا مع كلّ مضغةٍ لعلّ مذاقها يصل إلى كلّ خلايا جسدك.
أحببتُ لكلّ لحظةٍ أن تكون مشهدًا متكاملًا أشرف عليه، فلا يكون هناك مجالٌ للندم على تفويت أيّ لحظةٍ أو عدم الإحساس بها. ضربٌ من التأمّل والحمد ظلّا يقترنان بي ويلازمانني.

ثمانية أشهر، كأنها حلم!
مرّ الوقت ولم أستطع الإمساك به رغم كلّ محاولاتي وأمنياتي لإيقافه، خوفًا من لحظة وداعٍ لا أطيقها. لكن الزمن دار، وأعادني إلى النقطة نفسها، باختلاف الوقت وتطوّر الأسلحة، وتُركنا للحظة الأخيرة نواجه قدر النزوح، بينما الطائرات من فوقنا والمجنزرات المفخّخة من أمامنا.

غادرت المدينة ليلًا كما عدت إليها، وقلبي الذي طار فرحًا برؤية شوارعها ومعرفة معالمها كان هذه المرة يتفطّر ألمًا لوداعٍ يُكره عليه المرة تلو الأخرى، دون أن يعرف له نهاية.
تسمّر نظري على الطريق، خفت أن يغلبني النوم بعد ليالٍ لم أذق فيها طعمًا له لشدة القصف، أردت أن أحفظ كلّ بيتٍ وحارة، لأعي بعدها أنّني أعود لما كرهت؛ لأيامٍ فيها من الألم والبعد ما فيها، تعينني عليها ذاكرة الأماكن.

مع وصولنا الجنوب، فكّرت بأنّ النزوح لم يكن كابوسًا، وإنّما العودة كانت حلمًا عذبًا، وبتّ أردد: كأنّها حلم… كأنّها حلم.
صار النزوح قدرًا لا يمكنني أن أطلق عليه بعد اليوم “كابوسًا”، ليس لأنّه أخفّ وطأة، بل كي لا أجنّ وأنا أنتظر أن أستيقظ منه.
هذه المرة، ولأول مرة، أقولها: لا أعرف من السبب، لكنني وبعضٌ منّي من دفعنا الثمن.

شارك

مقالات ذات صلة