مدونات
الكاتب: ظاهر صالح
لقد كُتبت ملحمة غزّة بمدادٍ لا يرفّ على أطراف أوراق التاريخ، بل بجَذوةٍ من لحمٍ ودم.
إنّها ليست مجرّد بقعةٍ جغرافيةٍ محاصَرة، بل تجسيدٌ أثيريٌّ للاستعصاء الروحي، والبرهان الفاصل على أنّ الروح متى عشقت الحرية، خلدت.
النصر الذي انبثق لم يكن هِبةً عابرة، بل كان ارتدادًا وجوديًّا لصمودٍ مذهلٍ يُعمي أبصار الأعداء.
إن البذل الأقدس في هذه المعركة كان بذلَ الدم الطاهر على رمال غزة.
لقد أدرك هذا الشعب أنّ دماءه ليست ثمنًا، بل هي خلاصة الترخيص الإلهيّ بالبقاء على العهد.
كلّ هدمٍ في جدار، وكلّ أنينٍ خفيّ في ركام، لم يكن سوى مكوّنٍ يُعاد تدويره ليصبح قوةً ضاربةً تُسقط رهان الخصم على انهيار النسيج الإنساني.
صمود أهالي غزّة ليس فعلًا سلبيًّا يكتفي بالانتظار، بل هو فعل مقاوم على أرض الواقع، نحتٌ جلديٌّ في الوعي الجمعي.
أن تبقى العائلة تحت النّار هو ذروة المقاومة الصامتة التي تفكك أهداف العدوان النفسية.
لقد أصبح البقاء قانونَ المعركة الأوحد، وصار الصبر المقترن بالشجاعة بُعدًا إضافيًّا يُلغي فاعلية القوة المادية، ويؤكد أنّ الموت بكرامةٍ أوجب من الحياة بذلٍّ ومهانة.
في جبهة الاشتباك المباشر، تحوّلت الدماء والأشلاء إلى نقطةِ ضوءٍ عميقة.
المقاومة في غزة لم تكن مجرّد ردّ فعل، بل تعبيرًا صارمًا عن إرادةٍ لا تُقهر، مستندةٍ إلى شرعية المظلوم وحقّ الدفاع المقدّس.
لقد تفاجأ الاحتلال وحلفاؤه بمنظومةٍ قتاليةٍ لا تعرف التراجع، حيث أصبح العجز الماديّ دافعًا للإبداع التكتيكي.
كشف الميدان زيفَ ادّعاءات القوة والنصر المطلق، وتحوّلت الشوارع والأزقة إلى مصائد إرهاقٍ للمحتل، حوّلت الألمَ الوجداني لدى المقاومين إلى قوّةِ دفعٍ لا متناهية.
تلك العزّة الراسخة التي أظهرها المقاوم، هي التي كسرت شوكة الغطرسة، وحوّلت هزيمة الأهداف إلى نصرٍ حقيقيٍّ على الأرض.
لم يكتمل هذا النصر العظيم إلا حين التقى صمودُ الغزيّين برشاد القرار.
فحكمة الوفد المفاوض لم تكن مجرّد مهارةٍ سياسية، بل ترجمةً دقيقةً وصارمةً لقوة الميدان المرصّعة بالدماء.
إنّ صوت المفاوض لم يكن صوته وحده، بل صدى لجلَد طفلٍ تحت الركام، ووقعَ خُطى مقاومٍ على جبهة القتال.
لقد أدرك الوفد أنّ ثقل التضحيات الجِسام هو الرصيد التفاوضيّ الأثمن، فصاغ شروطًا لا تنبع من ضعف الأوراق، بل من سيادة الروح التي لا تقبل المساومة ولا التنازل عن الأساسيات.
ذلك التزاوج بين الدم الذي يتحدث واللغة التي تفاوض بهدوء الواثق، هو ما حصّن النصر وأعلنه فصلًا تاريخيًّا لا يقبل التراجع.
ختامًا… لقد علّمت غزّة التاريخ أنّ المفردات الوحيدة القادرة على التعبير عن الشرف هي الإرادة، والصمود، والثبات المُلغي للممكنات، والفداء الذي لا يخلّف وراءه إلا صدى البطولة.
إنّ نصر غزّة لم يُقطف إلا من جذور صبرها وصمود أبنائها، وتوّجته حكمة القرار وبصيرة التفاوض.
هذا التاريخ يُكتب ليصبح العهدَ الذي لا يَخذلنا، مؤكّدًا أنّ سيادة الروح هي الكلمة الأخيرة في كلّ صراع.
فليشهد العالم — من قلب هذه البقعة المضمّخة بالدم واليقين — يُبعث فجرٌ جديد، يُثبت أنّ الإرادة لا تُقصف، وأنّ النصر ليس معادلةً عسكرية، بل نزعةٌ باطنيةٌ تتفجّر حقيقةً على أرض الواقع.