مجتمع
“إذا كانت للحرية قيمة، فهي الحقّ في قول ما لا يريد الناس سماعه“ جورج أورويل، من خلال هذه المقولة للروائي والصحفي البريطاني جورج أورويل يمكننا أن نقرأ المشهد بجوهرِ المسؤولية الأخلاقية الخاصة بالكلمة من خلال زاوية مؤلمة مفادها “الشعب الذي أثبت، مراراً وتكراراً، أنّه قادرٌ على التكاتف وتقديم ما يستطيع من أجل بعضه البعض، في مقابلِ غيابٍ فاضحٍ لمن كان يُفترض أنّهم صوت الناس يوماً ما”.
فمع انطلاق “أربعاء حمص” خلال الفترة الماضية بمحافظة حمص ووصولاً لحملة الوفاء لإدلب، والتي جمعت تبرعات غفيرة من بسطاء الشعب السوري عموماً في الداخل والخارج، أكد السوريون -كما العادة- أنّ التضامن لا يُقاس بالمال والغنى بل بالقدرة على اقتطاع لقمة من رغيفهم لمساعدة الملهوف.
أرقام المشاركات ضمن الحملة وإن لو لم تكن ضخمة بمعايير اقتصادية، لكنّها حملت في الوقت نفسه “رمزيّة كبرى” كعامل مياومة يتبرع بأجره وأمّ تتبرع بما ادخرته في صندوق صغير وشباب جامعيين في إدلب يطلقون حملات تبرع “رغم وضعهم الصعب” إلى تبرعات من أهل الخيام في الشمال السوري.
وفي الجهة الثانية، شاهدنا غياباً صريحاً وفاضحاً لنجوم الشاشة السورية والذين لم يدخروا وقتاً في أيام حكم الأسد البائد عن ترديد الأغاني في مهرجانات تمجيد الأسد وحملات تلميع صورته، أو نشر صورهم إلى جانبه على وسائل الإعلام الرسمية، أو الاندفاع لتسويق “نصره على الإرهاب المزعوم” عبر مسلسلات ومقابلات، تراجع اليوم هؤلاء عن مساندة الشعب السوري لو بموقف علني بسيط يثبت مدى حبهم للثورة والوقوف إلى جانب شعبهم في لحظةٍ حرجة.
قد يقول البعض إنّ الشعب ليس بحاجة لتبرعاتهم، وهو قول صائب من زاوية: لم ينتظر السوريون يوماً مَن باع صوته للسلطة ليمد لهم يد العون، لكنّ هذا الصمت المريب يكشف حقيقة أعمق: أنّ أولئك لم يكونوا يوماً فنّانين للشعب، بل أدوات تطبيل إعلامية غيّبت ضميرها، وظلّت عاجزة حتى عن التظاهر بالانتماء لمحنة الناس.
حضورهم الصاخب سابقاً
تحوّل فنانو نظام الأسد البائد من “مجرّد وجوهٍ للدراما السورية” إلى أدوات دعائية للسلطة الحاكمة، فقد ظهروا في البرامج الرسميّة كجزءٍ من مشهد إعلامي صاخب كان الهدف منه تثبيت رواية النصر على الإرهاب والمؤامرة الكونية الذي تحدّث عنها الهارب الذي قتل شعبه “بشار الأسد”، وقد كان مشهد تسابُقهم للتمجيد والغناء بمهرجانات النصر واضحاً جلياً.
فبينما عُرفت الدراما منذ نشأتها بأنها مرآة للمجتمع اختزلها فنانو الأسد البائد بخطابٍ سياسيٍّ موجه، ظهر ذلك للعلن من خلال تقاريرٍ عديدةٍ وثقت تحول الشاشة خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد البائد لبوقٍ له ولسلطته، ضاربين تضحيات السوريين عرض الحائط، وذلك من خلال عرض أعمالٍ درامية تمجّد “بطولات الجيش” وتُقصي قِصص السوريين الحقيقيينَ من الحصار والجوع والتهجير والقصف بالطائرات والراجمات.
لم يكن ذلك محض صدفة، بل سياسة واضحة، فالنصوص الدرامية خضعت لمقصّ الأجهزة الأمنية التي حرصت على أن تخرج الحكايات في إطارٍ يخدم نظام الأسد البائد، يكفي أن نشير إلى أنّ لقاءات رسمية للأسد كانت تضم ممثلين معروفين مثل بسام كوسا وتيم حسن، وتُبث على شاشات الدولة لتقول بوضوح: هؤلاء الفنانون هم جزء من السلطة، لا مجرّد أفرادٍ مستقلين.
لكن المدهش أنّ هذا “الحضور الصاخب” اختفى فجأة عندما انتقل السوريون إلى امتحانٍ مختلف، امتحان التضامن الفعلي بعد تحرير سوريا نهاية 2024 في حملات التبرع الشعبية مثل “أربعاء حمص” أو “الوفاء لإدلب”، كان الفقراء يقتطعون من لقمة عيشهم ليقدّموا ما استطاعوا، بينما النجوم الذين اعتادوا المنابر الرسمية السلطوية تخلّفوا عن الميدان.
هنا يظهر التناقض الفاضح، الفنانون الذين أمضوا سنوات يطبلون في حفلات السلطة، لم يجدوا في أنفسهم ما يدفعهم ليقفوا إلى جانب الناس في لحظةٍ حرجة، هذا الغياب ليس مجرّد تقصير أخلاقي، بل فضيحة سياسية، فهو يفضح أنّ كلّ ذلك الصخب السابق لم يكن تعبيراً عن انتماءٍ وطنيٍّ، بل عن ولاءٍ سلطوي.
واليوم، حين خرج السوريون من عباءة الأسد، انكشف الوجه الحقيقي لتلك “النخبة الفنية”، صامتة، متوارية، وخارج أيّ معركةٍ إنسانية تخص الشعب.
تقزّزهم من المهجّرين
إن كانت مهرجانات نظام الأسد قد وفرت لفنانيه منصة للغناء والتهليل، فإنّ زيارتهم إلى مخيمات الشمال بعد التحرير كشفت الوجه الآخر.. وجه الاستعلاء، هؤلاء ما جاؤوا حينها لمشاركة الناس -في مخيماتهم- أوجاعهم أو ليتعلموا صبرهم، بل دخلوا المخيمات كمن يزور “غيتو“ غريباً عن بلاده.
ازدراء واضح عند بعضهم لمشاهد الخيام وأدنى مقومات الحياة واستهجانٌ من ظروف العيش، وتعامل باردٌ مع الناس كأعباءٍ لا كضحايا دفعوا أثماناً باهظةً نتيجةَ حربٍ شنّها الأسد نفسه، هؤلاء الأهالي الذين انتظروا كلمة تعاطفٍ أو تضامن حقيقي وجدوا أنفسهم أمام وجوه عابسةٍ لا تحملُ سوى التّعالي، وحين صعدوا الحافلة عائدين إلى مناطق إقامتهم المريحة، بدؤوا يغسلون أيديهم بالمعقمات وغيرها ما سبب سخطاً واسعاً في الرأي العام السوري لما فعلوه وقتها، ليتركوا خلفهم شعوراًبالخذلان أكثر مرارة من برد المخيم.
هنا يتضح الفارق الجوهري بين الشعب وهؤلاء “النجوم”: فالبسطاء الذين لم يتوقفوا عن تقاسم ما لديهم، والفنانون الذين تقزّزوا من مجرد الاقتراب من حياة المهجرين، هذه القصة ليست مشهداً دراميًّاً عابراً بل حقيقةَ موقفٍ يُعبّر عن انفصالٍ كاملٍ بين طبقةٍ مثلت السلطة لعقودٍ من جهة، ومن جهة أخرى الناس الذين دفعوا الدماء ثمنا لحريتهم، فهي لحظة كشفت عن انهيارٍ أخلاقيٍّ عميقٍ لتلك النخبة الفنيّة، فهم لم يعودوا قادرين حتى على تمثيل دور المتعاطف، لأن المسافة بينهم وبين الناس أكبر من أن تُجسَّر بابتسامةٍ أمام كاميرا.
الغياب عن التبرعات
إذا كان حضور فنانو الأسد في مرئيات التطبيل للأخير، فإنّ غيابهم عن حملاتِ التّبرّع بعد التحرير جاء مدوياً، فبينما قدّم السوريون البسطاء من مدخراتهم القليلة، وشاركوا في مبادرات جماعية قلبت المعادلة، آثر الفنانون الذين طالما تصدّروا الشاشات الصمت المريب، ففي حملة “أربعاء حمص” وحدها، جُمِع أكثر من 13 مليون دولار، قدمها تجّار صغار، طلاب، موظفون، وعائلات فقيرة اقتطعت من حاجاتها اليومية.
وليس آخر الحملات كانت “الوفاء لإدلب” لتسجل رقماً غير مسبوق، 208 ملايين دولار، لتؤكد أن التكافل الشعبي هو الذي يحفظ حياة الناس، لا بيانات النخب ولا خطابات الفنانين.
وبينهما، ساهمت حملات “حوران” و”دير الزور” بآلاف التبرعات التي شكّلت شرايين حياة لقاطني مخيمات الشمال السوري لكي يعودوا لديارهم، فوسط هذه الأرقام اللافتة، يغدو صمت الفنانين الموالين فضيحة بحدّ ذاتها.
أولئك الذين استعرضوا أصواتهم وأجسادهم على مسارح السلطة لم يجدوا الجرأة ليضعوا ليرة واحدة في صندوقٍ علني، والمفارقة أن نفس الأسماء التي كانت تتباهى بالجلوس في حضرة الأسد، ونشر صورها على وسائل التواصل الاجتماعي وهي تبارك “انتصاراته”، غابت تماماً عن أوسع حراك تضامني عرفته سوريا منذ عقود.
إنه غياب لا يفسره الإهمال أو الانشغال، بل يكشف الحقيقة التي حاولوا طمسها لسنوات، فهؤلاء لم يكونوا يوماً مع الشعب، بل مع السلطة فقط، واليوم حين قرر الشعب أن يكتب فصله الإنساني بنفسه، لم يعد للفنان الموالي أي مكان في المشهد، سوى “كظل باهت لذاكرة مرتبطة بعهدٍ بائد”.
الأسطورة المنهارة
لقد حاول فنانوا نظام الأسد لسنوات طويلة الظهور بـ “ضمير الشعب” لكنّهم في الحقيقة أدوات سلطوية، عمِلت على تزيين صورة نظام الأسد البائد وروايته، من خلال المسارح والتلفزيون والدراما المفبركة، ليلعبوا دور البوق الإعلامي، يرددون ما يُملى عليهم كجزءٍ من ماكينة سياسية لا علاقة لها بالثقافة والفن الحقيقي.
لكن اليوم، بعد أن تحرّرت سوريا من سطوة الأسد، انكشف زيف هذه الأسطورة، فغيابهم عن الفعل الإنساني ـ عن حملات التبرع التي جمعت ملايين الدولارات من أيدي البسطاء ـ هو الدليل الأوضح على أنّهم لم يكونوا يوماً مع الناس، بل ضدهم، فحضورهم الدائم في التطبيل السياسي يقابله غياب مطبّق في لحظةٍ تحتاج إلى التعاطف والدعم العملي.
إنّ المجتمع السوري الجديد لم يعد معنياً بـ”نجوم الشاشة” الذين لمعوا في بلاط الأسد، بل يحتاج إلى وجوهٍ صادقة، نابعة من وجع الشارع نفسه، تعكس حقيقته وتدافع عن كرامته.
فالزمن الذي كان يُشترى فيه التصفيق انتهى، وحلّ مكانه زمن التضامن الفعلي، وفي هذا الامتحان، سقط فنانو الأسد سقوطاًمدوياً، تاركين خلفهم أسطورة فارغة، لم تصمد أمام أول اختبار إنساني حقيقي.





