سياسة
.في فترات التحوّل السياسي والخروج من النزاعات والحروب والثورات تصبح مجالس النواب أكثر من مجرّد مؤسسات تمثيلية، إذ تتحوّل إلى منصاتٍ أساسية لإعادة صياغة العقد الاجتماعي وبناء شرعية جديدة للدولة. فهي الجهات التي تمتلك القدرة على سن القوانين ومراقبة السياسات وصياغة الأطر العامة التي تحدد كيفية تعامل المجتمع مع الماضي المؤلم.
وفي الحالة السورية، جاءت الانتخابات الأخيرة بشكلها الاستثنائي في ظل ظروف صعبة تعكس واقعاً سياسيًّا غير عادي، ما زاد من مسؤولية مجلس الشعب الجديد الذي يريد أن يصبح جزءاً من العملية الانتقالية ذاتها. فوظيفته لم تعد محصورة في سن التشريعات الروتينية أو مراقبة أداء الحكومة فحسب، بل بات مطالباً بقيادة مسار العدالة الانتقالية وتوفير الإطار القانوني والمؤسسي الذي يمكّن المجتمع من مواجهة إرث الانتهاكات والبدء في بناء مستقبل قائم على الثقة والعدالة.
البرلمان إطار تشريعي للعدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية ليست مفهوماً قانونيًّا مجرداً، بل عملية سياسية واجتماعية تسعى إلى تحقيق توازن بين إنصاف الضحايا واستقرار الدولة. ومن هنا، فإنّ البرلمان يمثل البوابة الأساسية لترجمة هذه المبادئ إلى قوانين عملية. فالمجلس مطالب بتشريع قوانين تنظم عمل لجان الحقيقة والمصالحة، وتحدد آليات جبر الضرر للضحايا سواء بالتعويض المادي أو بالاعتراف الرمزي والمعنوي، كما يجب أن يضع الأسس القانونية للمساءلة والعفو المشروط بحيث لا يفلت الجناة من العقاب من دون أن يتم كشف الحقيقة والاعتراف بالمسؤولية.
هذا الدور ليس تفصيلاً إجرائيًّا، بل هو ما يمنح العملية الانتقالية الشرعية والقوة. وقد برهنت تجارب عديدة على أهمية الدور التشريعي في إنجاح العدالة الانتقالية، كما حصل في جنوب أفريقيا عندما تبنّى البرلمان قانون لجنة الحقيقة والمصالحة، أو في المغرب حين دعم البرلمان عمل هيئة الإنصاف والمصالحة عبر تشريعات ضامنة لحقوق الضحايا. وبدون هذه الأطر القانونية، تبقى العدالة الانتقالية مجرّد شعاراتٍ تفتقر إلى القدرة على إحداث أثر حقيقي.
الرقابة ضمانة للتنفيذ
التشريع وحده لا يكفي لضمان نجاح مسار العدالة الانتقالية. فالكثير من القوانين قد تبقى حبراً على ورق إذا لم ترافقها آليات رقابية فعالة تضمن التطبيق السليم. هنا يظهر الدور الثاني لمجلس الشعب، وهو مراقبة عمل السلطة التنفيذية في تنفيذ القوانين ذات الصلة. فالبرلمان يمتلك أدوات الرقابة والمساءلة، من استجواب الوزراء إلى لجان التحقيق البرلمانية، وكلّها آليات يمكن أن تضمن أنّ القوانين المتعلقة بجبر الضرر أو الإصلاح المؤسسي أو المحاسبة لا يتم تعطيلها أو الالتفاف عليها.
أثبتت تجربة تشيلي، على سبيل المثال، أهمية هذا الدور حين فرض البرلمان نشر تقارير لجان الحقيقة أمام الرأي العام، ممّا حال دون إخفاء الحقائق أو تزييفها. وفي سوريا، سيكون هذا الدور أكثر إلحاحاً نظراً لضعف الثقة بين المواطن والدولة، فالمجلس مطالب بأن يكون ضمير المجتمع داخل المؤسسات، وأن يحرص على ألا تتحوّل العدالة الانتقالية إلى مجرّد شعار سياسية.
إشراك المجتمع المدني والضحايا
نجاح العدالة الانتقالية مرهون بقدرتها على تمثيل صوت الضحايا وإشراك المجتمع المدني في صياغة قراراتها. فالبرلمان ليس فقط مؤسسة للتشريع والرقابة، بل أيضاً ساحة للحوار الوطني. عندما يفتح المجلس أبوابه لعقد جلسات استماع للضحايا أو يستقبل مقترحات المنظمات الحقوقية، فإنّه يمنح العملية بعداً تشاركيًّا يجعلها أقرب إلى الناس وأكثر مصداقية.
برزت أهمية هذا الجانب في التجربة الكولومبية، حيث ساهمت منظمات الضحايا بشكل مباشر في صياغة قانون العدالة والسلام، مما جعل القانون أكثر تعبيراً عن معاناة الناس وأكثر قدرة على الاستجابة لاحتياجاتهم. أمّا في سوريا، فإن فتح البرلمان قنوات تواصل مع المجتمع المدني سيعزّز ثقة المواطنين بالمؤسسات الجديدة ويمنح العدالة الانتقالية شرعية اجتماعية حقيقية تتجاوز الطابع القانوني البحت.
خصوصية التجربة السورية
ما يميز الحالة السورية أنّ الانتخابات الأخيرة لم تكن مجرّد استحقاقً انتخابي تقليدي، بل عملية استثنائية أفرزت مجلساً برلمانيًّا في ظرف تاريخي حساس. وهذا يضع المجلس أمام مسؤولية مضاعفة، لأنّه لا يمثل فقط هيئة تشريعية جديدة، بل أيضاً جزءاً من عملية التحول السياسي التي تحتاج إلى قيادة حقيقية داخل المؤسسات.
من هنا، فإنّ على المجلس أن يتحوّل إلى رافعة للمصالحة الوطنية، عبر تبني قوانين جريئة وإطلاق برامج إصلاح مؤسسي تشمل القضاء والأجهزة الأمنية، وصياغة سياسات واضحة لتعويض الضحايا. كذلك، فإن المجلس مطالب بأن يعكس في تشريعاته طموحات السوريين في بناء دولة جديدة قائمة على المساواة والكرامة والحقوق، لا على الاستبداد والتمييز. وإذا ما تمكن من النجاح بهذا الدور، فسيكون بحق حجر الأساس لسوريا جديدة، أمّا إذا فشل فإنّه سيحول العدالة الانتقالية إلى مجرّد خطابٍ سياسي فارغ، مما يهدد بانتكاس العملية برمتها.
مسؤولية مجلس الشعب السوري في هذه المرحلة الانتقاليةليست شأناً إجرائيًّا أو تفصيلاً سياسيًّا، بل هي مسؤولية تاريخية ستحدد ملامح المستقبل. فالعدالة الانتقالية لا يمكن أن تتحقق بقراراتٍ منفردة من السلطة التنفيذية أو بمبادرات رمزية محدودة، بل تحتاج إلى مؤسساتٍ تشريعية قوية تضع الأسس القانونية وتراقب التنفيذ وتضمن المشاركة الشعبية.
إنّ نجاح المجلس في أداء هذا الدور سيعني أنّ سوريا تسير نحو مصالحة وطنية حقيقية وبناء دولة أكثر عدلاً، بينما إخفاقه سيترك العملية ناقصة ومعرضة للتراجع. وبذلك، لا يصبح البرلمان اليوم مرآة لآمال المجتمع فقط، بل أيضاً مفتاحاً أساسيًّا للخروج من الأزمة ورسم ملامح المستقبل .