مدونات

فلسفة شباب “وان بيس”

أكتوبر 5, 2025

فلسفة شباب “وان بيس”

الكاتب: عبدالرحمن حسنيوي

 

ماذا يعني أن يتحوّل الأنمي من خيالٍ بصري إلى أداةٍ احتجاجية تكسر حدود الفن وتخترق قلب السياسة؟ لم يعد الأنمي مجرد فن للترفيه، بل صار، في زمن الشباب الغاضب، وسيلةً للتمثيل الرمزي ولسان حال جيل يبحث عن معنى في عالم غارق بالفساد والاستبداد والانسداد السياسي. وحين تُرفع راية قراصنة مستوحاة من رسومٍ متحركة يابانية في وجه الدولة، نكون أمام مشهد تتجاوز دلالاته حدود الفن، مشهدٍ يثبت أنّ الخيال قادر على التحول إلى فعل، وأنّ السياسة لم تعد حكرًا على المؤسسات، بل غدت ساحة للرموز والمعاني التي تُبنى وتُتداول بين الناس.

مسلسل “وان بيس”، في ظاهره حكاية مغامرات بحرية، لكنّه في جوهره سردية كبرى عن الحرية ورفض الطغيان: طاقم صغير من المغامرين يجوب البحار متحديًا إمبراطوريات جبارة في سبيل كنزٍ أسطوري، غير أنّ الكنز، كما يفهمه الشباب في شوارع آسيا وإفريقيا، لم يعد صندوقًا من الذهب، بل مستقبلًا قابلًا للحياة، مستقبلًا لم يُنهبه الطغاة بعد. ولهذا تحوّلت الراية السوداء ذات الجمجمة والقبعة القشية إلى أيقونة احتجاج؛ تجسيد لما أشار إليه بول ريكور حين تحدّث عن الرمز الذي يفتح على المعنى: علامة بصرية واحدة تختصر سردية كاملة عن المقاومة والأمل.

جيل الشباب، وبخاصة جيل Z، وُلد في عالم مثقل بالحروب بالوكالة، والفساد الممنهج، والأزمات المناخية، والفجوات الطبقية المتسعة. لم يتلق هذا الجيل تربية سياسية تقليدية بقدر ما تلقى تربية رمزية من الثقافة الشعبية: من الأنمي، ومن الأفلام، ومن ألعاب الفيديو. هذه الوسائط صنعت مخيالًا جماعيًّا جديدًا يرسّخ قيم العدالة والتمرد والصداقة، فأصبحت وسيلة غير رسمية لتشكيل وعي سياسي مغاير. لذلك نرى شباب الفلبين ونيبال وإندونيسيا وكينيا والمغرب يرفعون الراية نفسها، وكأنّهم يؤسسون “أممية رمزية” جديدة، لا تقوم على العقائد أو القوميات، بل على خيالٍ مشترك يتحوّل إلى لغةٍ سياسية تتجاوز الحدود والجغرافيا.

من منظورٍ فلسفي، يمكن قراءة هذه اللحظة عبر مستويين متوازيين:

  • الأول هو العبث الكاموي: يعيش الشباب في عالمٍ يفتقر إلى المعنى، ومع ذلك يصرّون على ابتكار معنى من العدم. رفع الراية السوداء في المظاهرات يشبه ضحكة سيزيف وهو يدحرج صخرته؛ فعل رمزي يعلن أنّ الاستسلام لم يعد خيارًا.

  • الثاني هو الخيال السياسي: فكلّ مجتمعٍ ينهار حين تفقد أساطيره المؤسسة قوتها، فيبحث عن أسطورة بديلة. و”وان بيس” يقدّم هذه الأسطورة الجديدة؛ حكاية تتحوّل إلى مرجع رمزي يمنح الجماعة المبعثرة وحدةً معنوية، ويعيد تعريف البطولة باعتبارها مشروعًا جماعيًّا يقوم على التضامن لا على الفردانية.

تكمن قوة هذه الرموز في أنّها تولد من الشارع ومن فضاء الإنترنت، من مجموعات “ديسكورد” وغرف الميمات، لا من قاعات النخب ولا من مؤتمرات الأحزاب. إنّها رموز خفيفة — كما يسميها بعض المحللين — قادرة على الانتشار بسرعة البرق عبر الصور والفيديوهات، متجاوزةً الرقابة والجغرافيا. وهذا ما يرعب الأنظمة الاستبدادية، لأنّها تجيد مواجهة الخصوم المسلحين، لكنّها تعجز أمام جمجمة مرسومة على جدار، أو راية قماشية يرفعها طفل. فكلّ محاولةٍ لتجريم هذه الرموز تمنحها مزيدًا من القوة، لأنّها تكشف هشاشة النظام أمام خيالٍ شبابي يتغذى على السخرية واللعب.

بهذا المعنى، يتحوّل “وان بيس” إلى مختبر فلسفي للحرية. فشخصياته التي تقاتل الطغاة تمنح الشباب مرآة رمزية يرون فيها ذواتهم. وحين يرفع المتظاهرون الراية السوداء التي تحمل رمز القراصنة والقبعة القشية، فهم لا يستحضرون لوفي وطاقمه فحسب، بل يعلنون حقهم في حياة كريمة وفي مستقبل لم تنهبْه النخب. الراية هنا تُقرأ كإعلان حياة جديدة، كدعوة لإعادة اختراع معنى العيش المشترك.

والمفارقة أنّ المستقبل ربما لا يُصاغ في البرلمانات ولا في مكاتب الحكومات، بل قد يبدأ من جدار في حي فقير أو من لقطة في مسلسل ياباني يتبنّاه جيل بأكمله بوصفه شعارًا للكرامة. هنا يكمن الدرس الفلسفي العميق: حين يلتقي الرمز بالغضب، يتحوّل إلى قوةٍ تغييرية تفوق السلاح. فالخيال لا يهرب من الواقع، بل يعيد تشكيله، ويمنح جيلًا بأكمله القدرة على تحويل الهشاشة إلى قوة، واللعب إلى مقاومة، والأنمي إلى فلسفة وجودية في زمن الانكسار.

شارك

مقالات ذات صلة