Search

Close this search box.

مدونات

التدخل الروسي في السودان: الأبعاد والمآلات

يونيو 26, 2024

التدخل الروسي في السودان: الأبعاد والمآلات

يشهد العالم منذ سنوات مضت نوعا من الصراع بين الأقطاب، أشبه بأيام الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. غير أن هذا الصراع يختلف عن سابقه من حيث تعدد أساليبه وتنوع أشكاله، وتداخل قضاياه أحيانا وتشعبها أحيانا أخرى، وهذا ما يفسر التنسيق بين الأطراف المتصارعة في بعض القضايا والملفات وتعاركها في قضايا وميادين أخرى. وحرب السودان التي تدور رحاها منذ عام مضى ليست بمعزل عن ذلك الصراع وإن بدا المشهد قاتما في أيامه الأولى إلا أن معالمه باتت تظهر جلية كل يوم.

 

وهنا أسلط الضوء على زيارة المبعوث الروسي (ميخائيل بوغدانوف) إلى بورتسودان و تصريحاته المؤيدة لمجلس السيادة السوداني و تداعيات ذلك على الصراع الدائر في السودان. الناظر بعين فاحصة يجد أن القوى العالمية الفاعلة لديها رؤية متقاربة في إدارة المشهد السوداني مع اختلافها في الدوافع والأسباب، فالغرب ظل يحتوي الحاضنة السياسية للدعم السريع (قحط) ثم لاحقا (تقدم) ويمدها بكل أسباب القوة والبقاء، بالإضافة إلى دعمه العسكري اللا محدود عبر حليفه الإقليمي الإمارات.

 

وروسيا تمثل الحليف العسكري والاقتصادي الأول للدعم السريع حيث تقوم بمهام التدريب والإمداد العسكري عبر شركة (فاغنر) مقابل حصولها على التنقيب الحصري عن الذهب في حقول شركة (الجنيد) التابعة للدعم السريع. علما بأن ناتج تلك الحقول يقدر ب (70) طنا سنويا بحسب الإحصائيات الرسمية هذا غير المهرب طبعا الذي لا توجد له إحصائية دقيقة حتى تاريخه. هذه الشراكة نشأت منذ أيام البشير لكنها تعززت أكثر بعد سقوط نظام البشير حيث أصبح (حميدتي) الرجل الأكثر نفوذا في الدولة، واستمرت هذه الشراكة حتى أشهر الحرب الأولى إذ كانت روسيا وعبر إفريقيا الوسطى توصل الإمداد إلى حواضن الدعم السريع علما بأن روسيا لم تكن راغبة في نشوب حرب في السودان لأن ذلك يقطع عليها طريق السيطرة على دول وسط أفريقيا لكنها في الأول تعاملت مع الحرب بسياسة الأمر الواقع حفاظا على الحد الأدنى من مكتسباتها.

 

إذن ما الذي تغير؟ لم تكن روسيا ترغب في نشوب صراع مسلح في السودان- كما أسلفت- لكن تم استدراجها من قبل الغرب وإقناعها بأنه انقلاب خاطف أو حرب محدودة يتم بعدها ترتيب المشهد ، لذلك دعمت روسيا المحور الغربي في بادئ الأمر، لكن القطب الغربي طبيعته الجامحة لا تتغير، فهو لا يقبل المشاركة وتبادل المصالح، فسياسته قائمة على الاستحواذ والتسلط والانفراد، لذلك لا يدوم له حلف مع ند قوي وخصم عنيد كروسيا، فمع استمرار الحرب وارتباك المشهد تبين أن الغرب يهدف الي إنهاك الدولة وتدمير مقدراتها عبر حرب شاملة تقود في نهايتها الي تقسيم السودان وتمزيقه وهذا يعني فعليا أن روسيا هي الخاسر الأكبر ، إذ أن روسيا غير معنية بالمشروع الصهيو-أمريكي الرامي إلى تفتيت دول المنطقة وإغراقها في مستنقع الصراعات، فقط هي تبحث عن مصالحها الاقتصادية و تمدد نفوذها في إفريقيا وأهمه وجود إطلالة على البحر الأحمر ومع استمرار الحرب لا يتحقق ذلك، فمع احتمالية التقسيم تكون قد فقدت فرصة إطلالتها على البحر الأحمر لكونها دعمت الطرف المعادي الجيش أضف إلي ذلك مصالحها الاقتصادية كذلك على المحك لدخول لاعبين آخرين.

 

 ثم إن المشاريع الاقتصادية الناجحة لا تتأتى إلا في ظل وجود نظام مستقر ودولة مسيطرة، أضف إلى ذلك أن الغرب بهذه الحرب قطع على روسيا حلم التوسع غربا نحو تشاد لأنها كانت تعول على الحاضنة الاجتماعية للدعم السريع في تحقيق تمددها وحماية مصالحها. كل هذه الأسباب تقود روسيا إلى مراجعة موقفها و تغيير سياستها تجاه الوضع في السودان.

 

إلا أن التحركات الروسية الأخيرة يمكن قراءتها في سياقين: الأول: أن هذه التحركات جاءت بتنسيق مع أمريكا وشركائها لإعادة ضبط السيطرة وترتيب الأوضاع، وفي ذات الوقت إرضاء لروسيا التي أبدت امتعاضها من السياسات الغربية تجاه السودان.

 

وهذا السيناريو هو الأرجح، وذلك للآتي: أولا: لم تبد أي دولة غربية حتى الآن معارضتها لروسيا، التي أعادت توصيف الحرب بأنها بين الجيش ومليشيا متمردة. ثانياً: تبادل الأدوار بين روسيا والغرب في أزمات المنطقة وارد وله سوابق مماثلة في سوريا وليبيا. ثالثا: اتفاق حكومة السودان مع دولة قطر لإنشاء مصفاة للذهب بالدوحة وذلك بعد أربعة أيام من زيارة الوفد الروسي الي بورتسودان دلالته واضحة، وخطوة كهذه لا تقدم عليها قطر في ظل الأوضاع الراهنة الا بضوء أخضر من أمريكا. رابعا: كثرت المداولات لملف السودان في المحافل الدولية يحمل الغرب إلى ضرورة إيجاد مخرج للأزمة.

 

وهذا السيناريو -إن صدق- فهو يعني أن الأزمة مشرفة على نهاياتها. وأن الأيام القادمة تشهد تقدما للجيش في محاور الجزيرة والخرطوم، مقابل تقدم للدعم السريع في دارفور وأجزاء من كردفان، ليتم بعدها اتفاق لوقف إطلاق النار مع فرض التقسيم المؤقت تكراراً للمشهد الليبي والسوري. ومعالم هذا السيناريو بدت الآن جلية؛ فبعد زيارة الوفد الروسي إلى السودان بأسبوع واحد فقط يتم تطويق مدينة الفاشر من قبل قوات الدعم السريع إيذانا بسقوطها وإعلان دارفور خالية من الجيش تماما، وعلى الصعيد الدبلوماسي هناك تحركات واسعة لتفعيل منبر جدة واستئناف التفاوض، وتصريح المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان (توم بيرييلو) قبل يومين من أنه يمارس الضغوط على الطرفين من أجل الجلوس إلى مائدة التفاوض لهو خير شاهد علي ذلك. صحيح أن خيار التقسيم يصطدم بعقبات كثيرة، أهمها رفض الحواضن الاجتماعية والقوى السياسية له إلا أنه ينزّل بسياسة الأمر الواقع، أو يغلّف بثوب الحكم الذاتي الذي يمهد للانفصال.

 

السيناريو الثاني: أن التحركات الروسية الأخيرة جاءت مستقلة عن الدول الغربية، وهذا يعني أن الحرب قد بدأت لتوّها، وأن السودان أصبح مسرحا لصراع الأقطاب بما يشبه المشهد الأوكراني وهو ما ينذر بحرب طويلة لا تبقي ولا تذر. كان المنوط بجامعة الدول العربية و منظمة المؤتمر الإسلامي أو حتي الدول التي يعنيها الشأن السوداني بصفة خاصة كمصر والسعودية وتركيا؛ أن تقوم بدور أكبر لحل الأزمة ، لكن لم يحصل شيء يذكر. بل كان علي حكومة السودان استشعار الخطر والتعامل مع الأزمة بجدية أكبر والاستفادة من نوافذ الصراع بين القطبين مع تفعيل الملفات الحساسة لتجنيب البلاد شبح الفوضى أو خطر التقسيم.

شارك

مقالات ذات صلة