آراء
في إحدى الحفلات، جلست امرأةٌ فاتنةٌ بجانبِ الكاتبِ الشهير جورج برنارد شو، فهمس في أذنها: هل تقبلين أن تقضي معي ليلة مقابل مليون جُنيه!
ابتسمتْ وردّتْ في استحياءٍ: طبعا، بكل سرور!
عاد وسألها مرة ثانية بعدما اقتنعَ برضاها، هل من الممكن أن نُخفِّضَ المبلغ إلى عشر جنيهات؟!
فغضبتْ وصرختْ في وجهه: من تظنني أكون يا هذا؟!
فقال : سيدتي، نحن عرفنا من تكونين، نحن فقط اختلفنا في قيمة الأجر!
للأسف، إنَّ كثيراً من النُّخب الذين انفضُّوا عن المقاومة اليوم بعدما صار الوقوف معها مكلفاً، وقد كانوا البارحة يُنافحون عنها وهي على ظهور خيلها، لأنَّ الوقوف منها مكسبٌ ماديٌّ، ومعنويٌّ أيضاً، لأنَّها صكُّ طهرٍ وبراءة! لا يختلفون كثيراً عن هذه المرأة التي راودها برنارد شو عن نفسها، فكلُّ من له ثمن هو رخيص مهما ارتفعَ ثمنه!
ما أقبحُ الحكمة الباردة، هذا الجُبنُ الذي يرتدي عباءة الفلسفة، جعجعة مُنمّقة، ومفرداتٌ رنانة، ولا طحين!
كان بإمكان هذه النُّخب المخصيَّة أن يسعها الصمتُ، وهذا بحدِّ ذاته خذلان، وتذكرة مجانيَّة إلى مزبلة التَّاريخ!
ولكنَّهم أبوا إلا أن يطعنوا ظهرَ أشرف هذه الأُمَّة في أقدس معاركهم!
وكذا العاجزُ إذا أرادَ أن يرتأ دثار عجزه كي لا يبدو أمام نفسه عارياً صارَ له في شؤون الرِّجال وجهة نظر!
منذ متى لربَّات الحِجال رأيٌ في معارك الرِّجال؟!
أقرأُ قولَ النَّبيِّ ﷺ: لا تزالُ طائفةٌ من أُمّتي على الحقِّ ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضُرُّهم من خذلهم إلا ما أصابهم من لأواءَ، حتى يأتيهم أمرُ اللهِ وهم كذلك!
قالوا: أين هم يا رسول الله؟
قال: ببيتِ المقدسِ، وأكنافِ بيتِ المقدس!
أتحسَّسُ فيه مرارة طعم الخذلان حين يشعرُ المرءُ أنّه مقطوعٌ من شجرة! والغريبُ أنَّ النَّبيَّ ﷺ لم يقل لا يضرُّهم من عاداهم، فالعدوُّ لا يُتوقَّعُ منه إلا الضَّرر! وإنّما قال من خذلهم، لأنَّ الخُذلان يأتي ممن يُرتجى منه الخير!
أن يعطشَ والأنهار تجري في بلاد إخوانه!
أن تتوقَّفَ سيّارات إسعافه بسبب نفاد الوقود وأهله أكثر الأمم نفطاً!
أن يجوع ولا يُدخل له جاره من طعامٍ إلا ما يأذنُ به عدوُّه!
أن يُجلدَ على المنابر تارةً باسم التَّهور، وتارةً باسم البدعة!
أن تنهشه وسائل الإعلام دون أن تحترمَ مشهد بطولاته، ولا مشهد جنائزه!
أن تنغرسَ في جسده الأقلام، موجعٌ جداً أن يتطاول الحِبرُ على الدَّم!
أن تُحاضرَ فيه التَّجمعات والجماعات تريدُ أن تُعلّمه العقيدة، والولاء والبراء! وإنَّ من مصائب الدَّهر أنَّ يُفتيَ القاعد للمجاهد، ويتطاول من على الأريكة على من في الميدان، وأن ينشبَ مخالبه على المجاهد من لم يرمِ عدواً لهذه الأمة ولو بوردة!
غير أنَّ مفردةً واحدة من النَّبيِّ ﷺ تحيلُ كلَّ مرارة الخذلانِ إلى حلاوةِ الثَّبات: لا يضُرُّهم!
وأعرفُ أنَّ هذا الجهاد ماضٍ ولن يوقفه خذلان حبيبٍ ولا إجرام عدوٍّ، وأنَّ التَّاريخ الآن يُكتُبُ وهو لن يرحمَ أحداً!
فإن أُكلتْ لحومُ مقاومتنا على المنابر فقد أفتى ستُّون فقيهاً بقتل الإمام أحمد بن حنبل! ذهبوا جميعاً إلى مزابل التَّاريخ وبقيَ اسمُ الإمام أحمد خالداً بحروف من نور!
وإن نهشت مقاومَتنا الأقلامُ فقد كتبتْ صحيفة “برقةَ” يوم أُلقيَ القبضُ على عمر المختار بالخطِّ العريض: القبض على زعيم المتمرّدين عمر المختار!
ذهبَ الذين كتبوا إلى مزابل التّاريخ، وما زال اسم عمر المختار ناصعاً!
وإن تطاولتْ على مقاومتنا الجماعاتُ والأحزاب فشأنُ القاعدِ أن يُشعره المجاهد بنقصه، إنّهم يرتأون ثقباً في عباءتهم، فمن قصُرَ فعله طالَ لسانُه! ولن يسلمَ المرءُ من النَّاسِ ولو كان نبيًّا أو صحابيًّا، وتذكّروا أنّه قد أتى يومٌ على هذه الأُمَّة كانت الخوارج ترى عليَّ ابن طالبٍ كافراً حلال الدّم!
ذهبَ الخوارجُ إلى مزابل التّاريخ أيضاً، وعليُّ ابن أبي طالبٍ في الجنَّةِ بجوار حبيبه ﷺ!
هي أيّامٌ ستمضي بطولها أو بعرضها، سيخرجُ الحقُّ منها مكلوماً، ولكنّه سيداوي جرحه سريعاً، وسيُكمل طريقه غير عابئٍ ولا ملتفت، وعند الله موعدنا!




