سياسة

حدودٌ لا تهدأ: انهيار الاتفاقية الأمنية بين إسرائيل وسوريا ومآلات الفشل

أكتوبر 1, 2025

حدودٌ لا تهدأ: انهيار الاتفاقية الأمنية بين إسرائيل وسوريا ومآلات الفشل

ملامح الاتفاقية: بين التهدئة والاشتراطات

المسودات التي دارت حولها المفاوضات لم تكن اتفاق سلام شامل، بل أقرب إلى تفاهماتٍ أمنية مؤقتة هدفها خفض التصعيد ومنع الانزلاق إلى مواجهة واسعة. تركزت البنود على إنشاء مناطق منزوعة السلاح أو محدودة الوجود العسكري الثقيل قرب خط التماس، ووضع آليات مراقبة دولية، سواء عبر قوات الأمم المتحدة المنتشرة أصلاً في الجولان (UNDOF) أو بآليات تقنية إضافية لضمان الشفافية. كما تضمنت مقترحات لفتح معابر إنسانية محدودة، وتوفير ضمانات أمنية للطائفة الدرزية، التي تعدّ نقطة حساسة في الحسابات الإسرائيلية.

لكن خلف هذه الملامح، كانت هناك اشتراطات متبادلة تنطوي على توترات عميقة. إسرائيل أرادت من دمشق التزاماً واضحاً بمنع أيّ وجود إيراني أو مليشيات مرتبطة بإيران قرب الحدود، وبضماناتٍ أمنية تتجاوز مجرّد النصوص لتشمل إجراءات ميدانية ملموسة. في المقابل، طالبت دمشق بإبقاء الملف في إطاره التقني، ورفضت أي محاولة لإدخال قضايا سياسيّة أو إنسانية مشروطة في الاتفاق. وهنا بدأ التباين بالتحول إلى أزمة ثقة.

عقدة السويداء: السيادة أم المناورة؟

النقطة التي فجّرت المفاوضات كانت الإصرار الإسرائيلي على تضمين بند خاص بفتح ممر إنساني إلى محافظة السويداء، التي شهدت خلال الفترة الماضية أوضاعاً إنسانية متدهورة. ورغم أن المطلب بدا في ظاهره إنسانياً، إلا أنّ دمشق قرأته باعتباره محاولة لتكريس نفوذ إسرائيلي غير مباشر في الجنوب السوري، وفتح الباب لتدخلاتٍ مستقبلية تحت غطاء المساعدات. بالنسبة للنظام السوري، كان قبول هذا البند أشبه باعترافٍ ضمني بشرعية الدور الإسرائيلي على الأرض السورية، وهو ما لا يمكن التسليم به. من هنا جاء الرفض القاطع، ومعه انتهى كل ما بُني من توافقات سابقة.

لكن هذا الرفض لم يكن محصوراً بالسويداء وحدها. فالقضية كشفت عن عمق أزمة الثقة بين الطرفين، وإدراك كل منهما أن الآخر يسعى إلى استخدام أي ثغرة لتعزيز موقعه الاستراتيجي. إسرائيل أرادت من الممر الإنساني أكثر من مجرد عبور مساعدات، ودمشق خشيت أن تتحوّل الاستجابة إلى سابقة تُستغل لاحقاً في ملفات أخرى، مثل درعا أو القنيطرة. بهذا المعنى، لم تكن السويداء سوى رأس جبل الجليد.

الفشل مرآة لبنية الصراع

إذا تجاوزنا التفاصيل المباشرة، فإن فشل الاتفاق يكشف عن حقيقة أعمق: الحدود السورية الإسرائيلية لم تعد محكومة بالثنائية القديمة بين دمشق وتل أبيب فقط. منذ سنوات، دخلت أطراف جديدة إلى المعادلة: إيران وحزب الله من جهة، وروسيا كوسيط وضامن من جهة أخرى، إضافة إلى الولايات المتحدة التي تنظر بعين القلق لأيّ ترتيباتٍ قد تعزّز النفوذ الإيراني. هذا التشابك جعل أيّ اتفاقٍ ثنائي هشاً بطبيعته، لأنّه يصطدم بحساباتٍ إقليمية أوسع من قدرة الطرفين على التحكم بها.

كما أنّ انهيار مركزية السلطة في دمشق بعد سنوات الحرب جعل الالتزامات التي تعِد بها الحكومة السورية محل شك. لم تعد الدولة قادرة على فرض سيطرتها المطلقة على كامل الجغرافيا، خصوصاً في الجنوب حيث تتقاطع مصالح العشائر والفصائل المحلية والقوى الإقليمية. بالنسبة لإسرائيل، فإنّ أيّ اتفاق لا يضمن السيطرة الفعلية على الأرض يظلّ حبراً على ورق. وهذا بالضبط ما جعل المفاوضات تنكسر عند أول عقبة.

 

 

تداعيات الفشل: ماذا بعد؟

فشل الاتفاق لا يعني فقط غياب ورقة موقعة بين الطرفين، بل يفتح الباب أمام سلسلة من المآلات. أولها عودة خيار العمل الأحادي الإسرائيلي. فقد اعتادت تل أبيب، حين تفقد الثقة بالمسار التفاوضي، أن تعود إلى استراتيجية الضربات الجوية والجراحية داخل الأراضي السورية. وإذا تكررت هذه العمليات، فإن احتمالات التصعيد مع إيران وحلفائها ستزداد، وقد تتطور إلى مواجهات أوسع يصعب احتواؤها.

ثاني هذه المآلات هو تفاقم الأزمة الإنسانية، خصوصاً في مناطق مثل السويداء، حيث قد تتحوّل المساعدات إلى ورقة ابتزاز متبادلة. إذا أصرّت إسرائيل على ربط الممرات الإنسانية بالمكاسب الأمنية، ورفضت دمشق ذلك، فسيدفع المدنيون الثمن الأكبر. عندها قد تتدخل منظمات دولية بآليات جديدة، ما يخلق واقعاً موازياً خارج سيطرة الطرفين.

ثالثاً، يعيد الفشل ترتيب أوراق القوى الإقليمية. روسيا التي حاولت لعب دور الوسيط تجد نفسها أمام اختبار لقدرتها على ضمان التزامات واقعية. الولايات المتحدة، بدورها، قد تستغل انهيار الاتفاق لتشديد موقفها ضد أي تفاهمات تقلّص نفوذها في المنطقة. أما إيران، فهي الرابح المؤقت، إذ يتيح الفشل بقاء قواتها وحلفائها في الجنوب دون قيود جديدة، وهو ما تعتبره تل أبيب تهديداً وجوديًّا.

 

 

استشراف المستقبل: بين التهدئة المؤقتة والانفجار

المسار الأكثر ترجيحاً في المدى القصير هو العودة إلى تفاهماتٍ جزئية ومحدودة، أشبه بترتيبات “خفض تصعيد” مؤقتة. قد يجري التوصل إلى اتفاق على قواعد اشتباك أو على وقف إطلاق نار غير معلن، يسمح للطرفين بتجنب مواجهة واسعة، لكنه لن يحل القضايا الجوهرية. مثل هذه التفاهمات تبقى هشة بطبيعتها، تنهار عند أول خرق أو عند تغير في موازين القوى.

في المدى المتوسط، قد يعود الوسطاء إلى طرح صيغ معدلة، ربما عبر تحويل الممرات الإنسانية إلى آليات متعددة الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يخفف من هواجس دمشق ويمنح إسرائيل نوعاً من الطمأنينة. لكن مثل هذا الحل يحتاج إلى بيئة سياسية أقل توتراً، وهو ما لا يبدو متاحاً في اللحظة الراهنة.

أما السيناريو الأخطر فهو الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، إذا ما رأت إسرائيل أنّ استمرار الوجود الإيراني في الجنوب يشكّل تهديداً استراتيجيًّا غير مقبول. في هذه الحالة، قد تشهد المنطقة تصعيداً عسكريًّا واسعاً، يجرّ معه تدخلاً إقليميًّا ودوليًّا، ويعيد خلط الأوراق بطريقة لا يمكن التنبؤ بنتائجها.

 

خاتمة: حدود لا تهدأ

انهيار الاتفاقية الأمنية بين إسرائيل وسوريا ليس مجرّد انتكاسة دبلوماسية عابرة، بل انعكاس لحقيقة أنّ الحدود بينهما لم تدخل مرحلة استقرار منذ عقود. كلّ محاولة لإعادة هندسة التوازن الأمني تصطدم بمعادلات السيادة، وبالتشابك المعقد بين القوى المحلية والإقليمية والدولية. في النهاية، يظلّ الفشل الحالي جرس إنذار بأنّ الحلول الجزئية لا تكفي، وأنّ أيّ اتفاق لا يمتلك ضمانات تنفيذ واقعية ومقبولة من كلّ الأطراف المعنية محكوم عليه بالانهيار. وحتى ذلك الحين، ستبقى الحدود ساحة اختبار مفتوحة بين التهدئة المؤقتة والانفجار الكامن.

شارك

مقالات ذات صلة