آراء

للعرب كلمة

سبتمبر 30, 2025

للعرب كلمة

 

في أروقة الأمم المتحدة التي تتزاحم فيها الخطابات وتتقاطع فيها اللغات، كان للعرب هذا العام حضور استثنائي بدا مختلفًا عن السنوات السابقة، حيث ارتفعت أصوات ثلاثة زعماء عرب لتجسد مزيجًا من الصرخة الأخلاقية، والدعوة الإصلاحية، والإعلان التاريخي عن ميلادٍ جديد. لقد حملت كلماتهم ملامح متنوعة للواقع العربي الراهن، لكنّها التقت جميعًا عند جوهر واحد: ضمير يقظ ما زال قادرًا على أن يتكلم بلغة الحقّ مهما تكاثرت الخطوب.

كلمة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لم تكن مجرّد خطابٍ دبلوماسيّ عابر، بل بدت أقرب إلى صرخة لضميرٍ يقظ في وجه عالم متوحش فقد إنسانيته. إذ سمّى ما يحدث في غزّة من دون مواربة بأنّه “إبادة جماعية وجريمة في حق البشريّة”، ليضع النقاط على الحروف بعيدًا عن اللغة الملتبسة التي يتذرع بها المجتمع الدولي. وانتقد الأمير بشدة تواطؤ القوى الكبرى التي لا تزال تصر على ترديد مقولة “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، في حين أنّ غزة ليست سوى معتقل جماعي يتعرض للإبادة اليومية.

ولم يتوقف خطابه عند البعد الأخلاقي وحده، بل قدّم صورة مزدوجة لقطر: من جهة هي تعبير عن ضميرٍ عربي غاضب من جرائم الاحتلال، ومن جهة أخرى دولة تلعب دور الوسيط النشط الذي يدعو إلى إحلال السلام في الشرق الأوسط. ذكّر الأمير بجهود الوساطة القطرية المتواصلة للتوصل إلى هدنةٍ إنسانية، تضمن تدفق المساعدات وتحمي حقوق أهل غزّة، كما وجّه العالم إلى حقيقة دامغة أنّ هناك طرفًا إرهابيًّا لا يكف عن خرق القوانين الدولية حتى في قلب العملية السياسية، الأمر الذي يجعل مسؤولية المجتمع الدولي ثقيلة ومضاعفة أمام شعوب المنطقة.

أمّا خطاب سمو الشيخ صباح الخالد الصباح، ولي عهد دولة الكويت، فقد جاء بلغةٍ إصلاحية هادئة لكنّها لا تقلُّ عمقًا وتحديًا. ففي الذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة، ركّز الشيخ صباح على أن المنظمة لم تعد قادرة بآلياتها التقليدية على مواجهة أزمات الحاضر المعقدة، داعيًا بوضوح إلى تبنّي نموذج إصلاح شامل يضمن نظامًا دوليًّا أكثر عدالة في زمن طغى فيه الظلم.

ولم يكن الصوت الكويتي غريبًا عن هذا النهج، إذ لطالما عُرفت الكويت بمواقفها المبدئية في احترام القانون الدولي والوقوف مع المظلومين. فجاء خطاب ولي عهدها امتدادًا لمسيرةٍ طويلة تبنّتها الدولة منذ نشأتها، قائمة على الدفاع عن قضايا العروبة والإسلام، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. لم تغب فلسطين عن المشهد الكويتي، بل أشاد الشيخ صباح بالاعترافات الدولية المفاجئة بدولة فلسطين، معتبراً أنّها خطوة تكشف عن تحوّل في ضمير العالم، وإن جاء متأخرًا. وهكذا بدا الصوت الكويتي صوت حكمة غائبة ونداء عاقل وسط فوضى السياسة الدولية.

أما كلمة الرئيس السوري أحمد الشرع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فلم تكن مجرّد خطابٍ سياسيّ بروتوكوليّ، بل أشبه ببيانٍ تاريخيّ وإعلان لميلاد جديد لسوريا بعد عقودٍ طويلة من التهميش والنسيان. لقد حمل خطاب الشرع في طياته شجاعة مواجهة الداخل بقدر ما حمل رسائل للخارج، فكان مختلفًا في لغته وصريحه.

تحدّث الشرع بداية عن العقوبات الأميركية، واصفًا قانون “قيصر” بأنّه سيف خنق الشعب السوري وأوقف عجلة الإعمار في الشام. ثمّ انتقل بجرأةٍ إلى مواجهة التاريخ الأسود للنظام السابق، نظام عائلة الأسد، فقال بوضوحٍ إنّ التعذيب والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية والتهجير لم تكن إلا جرائم حرب ممنهجة أوقعت مئات الألوف من الضحايا وملايين المشردين، فضلًا عن البيوت التي دُمِّرت فوق رؤوس أصحابها. وتعهّد أمام العالم بأنّ العدالة ستطال كلّ من تلطّخت يداه بدماء الأبرياء السوريين، في إعلان نادر لمسؤولٍ عربي رفيع يعترف بمأساة شعبه على هذا النحو ويعد بمحاكمة المتورطين. لقد كانت تلك لحظة فارقة في إعادة صياغة الشرعية الدولية لسوريا الجديدة.

وفي مضمون خطابه، لم يغفل الشرع التحذير من السياسات الإسرائيلية المتواصلة منذ أشهر، محذرًا من محاولات استغلال المرحلة الانتقالية غير المستقرة في سوريا. لكنّه طمأن المجتمع الدولي في الوقت ذاته على التزام بلاده بالاتفاقيات الدوليّة، مفضلاً لغة الحوار والسلام وعدم الصدام على مغامرات الحرب والتحركات العسكرية. وهنا، جاء ذكره لغزة وفلسطين في مشهدٍ مؤثر أمام الحاضرين، حين قال إنّ الشعب السوري الذي ذاق ويلات الحصار والدمار “يعرف معنى أن تكون غزة محاصرة تحت القصف”، مؤكدًا أنّ القضية الفلسطينية جزء من ضمير سوريا الجديد، وأنّ دعم غزّة ليس خيارًا سياسيًّا بل التزامًا تاريخيًّا وإنسانيًّا. لقد ربطت هذه العبارة بين مأساة الداخل السوري وبين الجرح الفلسطيني، لتمنح خطابه بعدًا وجدانيًّا تجاوز الحدود.

كانت تلك ثلاثة أصوات عربية اختلفت في الأسلوب واتحدت في الجوهر: صرخة قطرية واجهت العالم بلغة الحقّ، ونداء كويتي استحضر الحكمة والإصلاح، وإعلان سوري فتح نافذة على ميلاد جديد. ما بين غزّة وسوريا وفلسطين، بدا الحضور العربي هذا العام أكثر صدقًا وعمقًا، وأقرب إلى استعادة الضمير الجماعي الذي لم يفقد قدرته على الكلام مهما اشتدت الأزمات. لقد أعادت تلك الكلمات رسم ملامح العرب في الأمم المتحدة: ضمير يقظ، وعقل إصلاحي، وإرادة ولادة جديدة، تذكر العالم بأنّ الصوت العربي، رغم الجراح، لا يزال قادرًا على صياغة خطاب يتجاوز الصمت ويواجه الظلم.

شارك

مقالات ذات صلة