آراء

محاكمة أبي حيان التوحيدي

محاكمة أبي حيان التوحيدي

يقول أبو حيان التوحيدي: “اللهم إني أسألك جداً مقروناً بالتوفيق، وعلماً بريئاً من الجهل، وعملاً عرياً من الرباء، وقولاً موشحاً بالصواب، وحالاً دائرة مع الحق؛ نعم، وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدر، وراحة جسم راجعة إلى روح بال، وسكون نفس موصولاً بثبات يقين، وصحة حجة بعيدة من مرض شبهة، حتى تكون غايتي في هذه الدار مقصودة بالأمثل فالأمثل، وعاقبتي عندك محمودة بالأفضل فالأفضل، مع حياة طيبة أنت الواعد بها ووعدك الحق، ونعيم دائم أنت المبلغ إليه”. من مقدمة كتابه البصائر والذخائر.

قضيتُ هذه الأيام في رحاب عالم أبي حيان التوحيدي، حيث اقتنيتُ كتابًا جديدًا عنه بعنوان “أبو حيان التوحيدي.. محنة مثقف عضوي في الثقافة العربية القديمة – دراسة في السياق والخطاب”، بقلم محمد هُمام، من إصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. استمتعتُ بهذه السيرة الفكرية لشخصية قلقة من القرن الرابع الهجري، الذي عُرف في كُتب التراجم العربي بـ”فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة”. المؤلف باحث مغربي حاصل على الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة القاضي عياض بمراكش، وأستاذ للبلاغة وتحليل الخطاب في جامعة ابن زهر بأكادير.

كتاب “أبو حيان التوحيدي.. محنة مثقف عضوي” يقع في 336 صفحة، يستعرض كاتبه سيرة التوحيدي الفكرية، ويتساءل مؤلفه في هذا الكتاب عن التوحيدي: أهو مجرّد أديب ممتع أم ناقد نافذ البصيرة؟ أكان ناقلًا أم صانعًا للمشهد الثقافي؟ أكان صاحب مشروع فكري ونقدي وموقف جريء من مجتمعه؟ وما سياق كتابة التوحيدي لمؤلفاته؟ ويحاول المؤلف تحقيب حياة الأديب وتأليفه كتبه في عدة مراحل زمنية. ويفكّك الكتاب صورة أبي حيان، ويُبرز الكتاب التوحيدي بوصفه مثقّفًا حرًّا قاوم إغراءات السلطة.

يتوزّع كتاب محمد هُمام على فصلين، يتناول الفصل الأول سيرة التوحيدي وحضوره وغيابه عن الذاكرة الثقافية، وكيف تشكّلت نفسيته من خلال ثلاث مراحل: الأولى مرحلة الانفتاح والمشاركة عبر علاقات مع الوزير ابن عباد والوزير ابن العميد، على الرغم مما قيل عن سعيه للمنفعة، لكنّ فيها أبعادًا فكرية. والمرحلة الثانية مرحلة النقد والمواجهة، حيث ظهر التوحيدي ناقدًا ساخرًا غاضبًا من واقعه، يكتب من علو أخلاقي، ساخطًا على العامة والوزراء والمثقفين وحتى شيوخه. ثمّ مرحلة الانكفاء والعزلة، حيث انعزل التوحيدي في بغداد، منصرفًا إلى كتابةٍ صوفيّة، مع التوقف في الكتاب عند مسألتَي عروبته وعقيدته.

أمّا الفصل الثاني فيعرض مراحل تشكُّله الثقافي، مقترحًا ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة التأسيس، وقد ظهرت في كتب “البصائر والذخائر” و”الهوامل والشوامل”، وهي المرحلة التي يظهر فيها تأثر التوحيدي بالجاحظ، فقد ذكره التوحيدي في أكثر من كتاب، وبالأخص في “البصائر والذخائر”، وألَّف فيه كتاب “تقريظ الجاحظ”، الذي نقل عنه ياقوت الحموي كثيرًا. ووصف التوحيدي كتب الجاحظ بأنّها “الدرُّ النثير، واللؤلؤ المطير”، كما وصف كلامه بأنّه “الخمر الصرف والسحر الحلال”.

قال مسكويه للتوحيدي في كتاب “الهوامل والشوامل” في إحدى إجاباته: “وصديقك أبو عثمان يقول: الحياء لباس سابغ، وحجاب واقٍ (…) وإنما حكيت لك ألفاظه لشغفك به، وحسن قبولك كل ما يشير إليه، ويدل عليه”. ثمَّ إنَّ التوحيدي نَسَخَ لأبي الوفاء المهندس كتاب “الحيوان” كما ذكر في “الإمتاع والمؤانسة”، ونافس ابن العميد على لقب “الجاحظ الثاني”.

والمرحلة الثانية هي مرحلة النضج، كما في كتبه الكبرى “الإمتاع والمؤانسة” و”أخلاق الوزيرين” و”الصداقة والصديق” و”المقابسات”. وأخيرًا المرحلة الثالثة وهي التميز، كما في “الإشارات الإلهية” و”رسالة في بيان ثمرات العلوم” و”رسالة الحياة”.

وقد حلل الباحث محمد هُمام جذور ثقافة التوحيدي العربية وتأثره بأساتذته الجاحظ وأبي الحسن الرماني وأبي سعيد السيرافي، إضافة إلى موقفه من الفلسفة وموقفه من الفكر الصوفي، ويرى هُمام أنّ الاتهامات التي لاحقت التوحيدي لم تكُن منصفة، بل أسهمت في تهميش دوره.

عندما فَرَغْتُ مِن قراءة الكتاب أخذتُ أدوِّن الملاحظات المنهجية حول هذه السيرة. والحقيقة أنَّ الأمر محيِّر في كتابة مراجعة لهذه السيرة، فهي ممتعة ومكتوبة بقلم محترف يُجيد جمع الأحداث والشواهد بأسلوب أدبي مميز، ويُطعم الكاتبُ النصَّ بنقولات واقتباسات بديعة بقلم التوحيدي الفريد ولُغته الأدبية الراقية، لكنّني ما كِدْتُ أفرغ من الكتاب حتى شعرت ببعض الإشكاليات في متن هذا النصّ وفي تحليل الكاتب لسيرة التوحيدي.

سجَّل الكاتب محمد هُمام سيرة للتوحيدي، لكنّه كتب هذه السيرة بعين الرضا والإعجاب التي تريد الدفاع عن أيّ هجومٍ على التوحيدي، ويبدؤها بافتراض أنَّ دراسات قديمة وحديثة شوَّشَت سيرته وصورته وأساءت إلى دوره الفكري والثقافي. وبهذه الرُّوح المُحِبّة التي تحمل التقدير للتوحيدي، حاول الكاتب أن ينفي أيّ هجومٍ عليه، سواء التهمة بالزندقة أو تحامله على الوزيرين ابن العميد والصاحب ابن عباد، وهذه الطريقة جعلته يجمع النصوص والشواهد ليدافع عن التوحيدي المظلوم في تاريخ الأدب العربي.

هذه فرصة أن أعبِّر عن فكرة تشغلني في قراءة الأدب، وهي: لماذا نُريد من الكاتب العظيم والأديب المبرز أن يكون نبيلًا في كل مواقفه، متسقًا في كلِّ قناعاته، عقلانيًّا في كل ما يكتب، سَوِيَّ النفسية في كل ما يُعبِّر عنه، وألا يُضمِر قلبُه حسدًا أو طمعًا أو غيرهما من آفات النفوس البشرية؟ إنَّ الأدب بما أنَّه تعبير وإبانة عن نفس صاحبه، فقد يبلغ مبلغًا عظيمًا فيه وفي قدرته التعبير، ولا يلزم مع بلاغة التعبير الأدبي تزكية النفس بالمفهوم الديني أو إصلاح أحوال القلب، وإن كانت نصوص الدين تطلب من الإنسان تلازم القول مع الفعل، وتطلب منه أن يزن أفعاله على ميزان الصلاح والأخلاق، فإنَّ تاريخ الأدب حافل بنماذج كثيرة من علوّ القدم في الأدب واجتماع ذلك في نفس صغيرة، بل إنّنا ونحن نقرأ الأدب علينا أن نتذكر أن التناقض وارد في نصوص الأدباء، بين ما كتبوه في مرحلة مُعيَّنة من حياتهم ومرحلة أخرى، وهذا يدفعني للعودة إلى مناقشة الكاتب محمد هُمام . لا يضير التوحيدي أن يكون الثلب دكانه كما يقول ياقوت الحموي عنه، وأن يكون واحدًا من الهجَّائين الكبار في تاريخ الأدب العربي، أو أن تكون نصوصه متناقضة، أو حتى عبارات غير مفهومة مثل التي تَرِدُ في كتابه “الإشارات الإلهية”. إنّنا نحرم الكاتب هنا من طبيعته الذاتية ونحاول ترقيته لأنَّه أديب بارع لا يمكن أن يكون شتّامًا أو سبّابًا أو هائمًا على وجهه أو متناقضًا.

هنا أتذكَّر عبارة الأستاذ محمود محمد شاكر عندما سألوه عن الأدب الإسلامي، فقال: “لا يوجد شيء يقال له منهج إسلامي في دراسة الأدب. الذين درسوا الأدب هم المسلمون، والذين قالوا الشعر وقالوا الخبائث أيضًا من المسلمين، نحن لا نكفّرهم ولا نُخرجهم من ديننا، وإنما هُم ناس مِن العُصاة، نسمع أقوالهم ونلتمس في داخلها فقط قدرتهم على التعبير”.

إذا كان من “عظمة الرجل أن يختلف الرأي فيه”، والعبارة لطه حسين وقد نقلها الكاتب، فإن محمد هُمام حاول أن يردّ على كلِّ الهجوم على تراث التوحيدي، بجعله رمزًا، وأنَّنا في حاجة إلى توحيدي معاصر. وعلى طول صفحات الكتاب كنتُ أبتسم من هذا الحب الجارف وأرى محاولات المؤلِّف عقلنة مسيرة التوحيدي، فهو يُقِرُّ بأنَّ مزاج التوحيدي حادّ ولهجته عنيفة ولديه صراحة مذهلة في النقد والثلب، لكن الكاتب يلتمس من بين نصوص التوحيدي ما يجعله بصورة مغايرة.

في عنوان الكتاب مشكلة منهجية، إذ يقرأ المؤلِّف محمد هُمام حياة التوحيدي باعتبارها “محنة مثقف عضوي في الثقافة العربية القديمة”، وهنا موطن الإشكال عبر إسقاط مفهوم المثقف المعاصر ومفهوم المثقف العضوي الذي أنتجه أنطوني غرامشي والأدبيات المعاصرة عن اشتباك المثقف مع السلطة، ونقل هذه الحمولة المعاصرة إلى ساحة الأدب العربي القديم، فنوع الثقافة المعاصرة مختلف عن حياة الأدب والأدباء في القديم، وشكل السلطة المعاصرة والدولة مختلف عن طبيعة الأمراء والحكام في القرن الرابع الهجري، ولقاءات العلماء بالأمراء لا تخضع لنفس الصورة المعاصرة عن سيطرة الدولة على المجال العلمي والأدبي والفكري، لذلك شعرت أنَّ جَعْلَ التوحيدي رمزًا للمثقف المشتبك فيه مبالغة وإلباس التوحيدي الأديب الكبير ثوبًا لا يناسبه.

ثمة عبارة توقفتُ عندها في الكتاب. يقول الكاتب: “لقد كان التوحيدي مفكرًا ومثقفًا/ ابن بيئته التي تفاعل معها سلبًا وإيجابًا، ودورنا يتلخص في أن نعرف له قَدْرَه، ونعترف بفضله، ونُبرزه للناس رائدًا من رواد الفكر والأدب العربيين دونما انبهار واندهاش، أو طعن واحتقار، ثم لنفرض أن التوحيدي كان مستهترًا وحقودًا وحادًّا! أوَلم يكُن سيئة من سيئات عصر بأكمله؟”. انتهى حديث المؤلِّف. وهذا تبرير فريد وغريب! من حقِّ الكاتب أن يدافع عن الأديب ويطالب أن نُبرزه رائدًا من رواد الفكر، لكنّه يعزو أيّ عيوبٍ في شخصية التوحيدي إلى عيوب العصر بأكمله!

ينتقل الكاتب في وصف القرن الرابع الهجري نقلات سريعة، قد تبدو متناقضة. يذكر الكاتب محمد هُمام نشأة التوحيدي في زمان عُرف بعهد الرواد، وكان يمثّل أزهى العصور الإسلامية، من حيث العلم والحضارة والأدب، ويفصّل المؤلف في أسماء الأعلام من الشعراء وأدباء هذا القرن، في صفحة 46، ثمَّ على بُعد عدة صفحات يصبح التوحيدي واقعًا في القرن الرابع الهجري، وهو عصر تقلُّبات واضطرابات في القيم والأخلاق، من حيث انتشار النفاق الاجتماعيّ، وكثرة الوشايات والدسائس والمنافسات، فضاع الدين، وخربت الذمم. وينقل المؤلف ضجر التوحيدي بزمانه، فقال مثلًا: “وقد بُلينا بهذا الدهر الخالي من الديانين الذين كانوا يُصلِحون أنفسهم ويُصلِحون غيرهم بفضل صلاحهم الخاوي من الكرام الذين كانوا يتسعون في أحوالهم، ويوسعون على غيرهم من سعتهم”.

والصراحة أنّني فكرت: لماذا تُذكَر عظمة القرن الرابع الهجري ثم ننقل صورة منحطة للعصر بعين التوحيدي، ونجعل شهادة التوحيدي هي الحاكمة لتصورنا لهذا الزمن، ونرى نقده لزمنه من قَبيل نقد المثقف لزمنه؟ فالكاتب يقفز إلى القول إنّ الزمن الثقافي والاجتماعي كان رديئًا. ألم يكُن القرن الرابع الهجري عصر تميُّز علمي منذ قليل؟ كيف ارتدينا نظارة التوحيدي لِنُقِرَّهُ على رؤيته لهذا العصر؟

يذكر المؤلف محمد هُمام: “وقد سبق أن ذكرنا أنّ كثيرًا من الدارسين يرجع فشل التوحيدي في الحياة إلى طبيعته ونفسيته وشكاسة خلقه وشعور يخامره بالاستعلاء، فهو لم يفرّق بين رئيس ومرؤوس، وأعلن الحرب على الجميع في صراحة وتطرف، وأظهر عدم قدرته على التكيف مع ظروف عصره. والحقيقة أنّ العصر في حد ذاته لم يكُن يرقى إلى خطاب التوحيدي”. انتهى كلام المؤلف، وهذه نظرة عجيبة بجعل الأديب والكاتب حَكَمًا على عصر بأكمله، فالعصر لم يرتقِ إلى التوحيدي! المشكلة الوحيدة لدى الكاتب أنّ التوحيدي لا يمكن أن يكون مشاكسًا أو مغرورًا أو يحمل أيّ عيوبٍ خُلقية أو حتى عيوب اجتماعية في معاشرة أصحاب الجاه والسلطة. التوحيدي واحد من عباقرة التراث، لكن العبقرية لا تُصلِح الأخلاق ولا تُغيِّر السلوك والنفسية، ولا يجعلنا تقديره لمنجزه الأدبي نلتمس له فضائل أخلاقية غير متوفرة في نصوصه أو سلوكه.

مِن النقاط المميزة في بحث محمد هُمام دفاعه عن التوحيدي في عدة نقاط. عندما ذكر أنّ هناك من يتأول النكت الجنسية في نصوص التوحيدي، ويعتبرها تأكيدًا لكبته الجنسي، وانفجارًا كامنًا للرغبات المقموعة في اللا شعور، من بؤسٍ وحرمان وغيرهما. وقد ردّ الكاتب على هذه الفكرة بأنّه تأوُّل مُغرِض، إذ ذكر أحمد أمين هذه التهمة في معرض تفسيره لظاهرة النكتة الماجنة، والعبارات الخليعة التي يرشح بها بعض كتب أبي حيان، خصوصًا “البصائر والذخائر”، ويورد الكاتب نصًّا للتوحيدي يمكن اعتباره عذرًا منهجيًّا لظاهرة المجون في كتبه، وهي الرغبة في إحماض القارئ، حتى لا يتعب ولا يملَّ من كثرة توارد كلام الجد عليه في الحكمة والفلسفة والشريعة. يقول التوحيدي: “وإن كنت أجعله بمنزلة اللهو الذي أستعين به على الحقِّ، والهزل الذي أستريح به من الجد”.

لكنّي أختلف مع الكاتب محمد هُمام عندما يجعل التوحيدي “صاحب مشروع فكري، مؤمنًا بالتغيير، عارفًا بما يتطلبه عمله من تضحية وتجرُّد”، نحن نرى التوحيدي في نصوص أُخرى يُطيل المدح ويقلل من نفسه. يقول التوحيدي متحدثًا للوزير ابن سعدان: “أطلتُ الحديث تلذُّذًا بمواجهتك، ووصلته خدمةً لدولتك، وكرّرته توقُّعًا لحسن موقعه عندك، وأعدتُه وأبديتُه طلبًا للمكانة في نفسك”.

في الكتاب الذي بين أيدينا عبارة مميزة، تكشف عن حيرة المؤلف في شأن التوحيدي، يقول: “والحقيقة أنّي كلما ازددت إعجابًا بشخصية التوحيدي، وتملكتني الدهشة بفكره الحر القوي، اصطدمت بين الفينة والأخرى بنصوصٍ تُدينه وتفضحه. وكنت أسأل نفسي: أيُعقَل أن يكون الرجل صاحب العقل الجبّار، الذي يخوض في أعمق المسائل ويخرج بأشد الآراء جرأة، قد انقاد في الوقت نفسه لنفس دنيئة، تطمع في فتات موائد مرتزقة بني بويه، أهل الجور والفساد؟ أيُعقل هذا؟!”… ويزداد تعجُّب كاتبنا محمد هُمام من التوحيدي وهو يتفنن في رسم صور بليغة وبديعة في التسول والخضوع. يقول التوحيدي متوجهًا بالحديث إلى الوزير: “خلِّصني أيها الرجل من التكفف، أنقِذني من لُبْس الفقر، أطلِقني من قيد الضر، اشتِرني بالإحسان، اعتَبِدني بالشكر، استعمِل لساني بفنون المدح، اكفِني مؤونة النداء والعشاء. إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ قد -والله- بُحَّ الحلق، وتغيَّر الخُلْق، الله الله في أمري! اجبُرني فإنّني مكسور، اسقِني فإنّني صدٍ، أغِثني فإنني ملهوف، شهِّرني فإنني غُفْل، حلِّني فإنني عاطل”. انتهى تسوُّل التوحيدي على باب الوزير.

كان أَوْلى بكاتبنا وهو يقف عند صور التناقض في شخصية التوحيدي أن يَقْبَلَهُ على عِلَّاته، وأن يتعامل مع نصوص الأدب على أنّها تعبيرٌ نفسيٌّ قد يحتمل التناقض، بدلًا من محاولة عقلنة كل مراحل حياة التوحيدي وجعل أزماته النفسيّة أو الحياتيّة وليدة أزمة في عصره.

وبعد أن يذكر المؤلف كل هذه التناقضات في شخصية التوحيدي يقول لنا في دفاع مميز عن التوحيدي: “الجديد في هذه القضية أنّ جميع هذه العناصر الشاذة في حياة التوحيدي وسلوكه لم تكُن تعبِّر عن حقيقة شخصه وأفكاره، وإنّما هي مداهنات، وسائل لولوج البلاطات وحضور حلقات العلم في حضرة الوزراء، لفك الحصار وتبليغ فكره والصدع بالحقِّ”. عجيب هذا الدفاع عن التوحيدي وجعله حاملَ رسالة ناهضًا بفكرة وهو يبحث عن الرعاية من الوزير!

من النقاط المميزة في بحث محمد هُمام ما يذكره الباحث محمد هُمام إنَّ هناك مَن يقارن التوحيدي بفلاسفة الغربة الوجودية المعاصرين، مع ما في هذا الإسقاط من تجاوز لتاريخ وتوظيف لمفاهيم لا تكاد تصمد حتى في تربتها، فما بالك إذا قطعنا بها مسافات طويلة في التاريخ والجغرافيا؟! ورغم هذه الفكرة الممتازة وتطبيقه لها على مَن رَبَط بين التوحيدي والأفكار الوجوديّة المعاصرة مثل عبد الرحمن بدوي.

هكذا عِشْتُ مع كتاب الباحث محمد هُمام عن التوحيدي، واستمتعتُ بسيرة التوحيدي الفكرية، واختلفت مع تحليلات الباحث وهو يدافع ويلتمس العذر في كل صفحة عن شطحات التوحيدي، فبدلًا من الكُتب التي تتهم التوحيدي في عقيدته يجعله الباحث صاحب فلسفة إيمانية تقوم على التدرُّج في الإيمان الصوفي، في سموٍّ نحو الأعلى، وترفُّع عن حقارة الأسفل وتبذُّلِه! وبدلًا من النظرة إلى التوحيدي من خلال النصوص الحزينة في الإشارات الإلهية نراه يقرأ التوحيدي كشخصية متفائلة.

لا أكتب هذا النص على طريقة القارئ العدوّ الذي حكى عنه الجاحظ في قوله: “ينبغي لمن كتب كتابًا ألا يكتبه إلا على أنَّ الناس كلّهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلّهم متفرغ له”، بل أنا هنا أريد أن أنضم إلى نوعية القارئ الناقد، لا العدوّ، وأحاول أن أردّ الجميل للكاتب الذي أمتعني من خلال كتاباته.

شارك

مقالات ذات صلة