فكر

خطاب الشرع في الأمم المتحدة.. سوريا بين استعادة الشرعية وتحديات المرحلة الانتقالية

سبتمبر 25, 2025

خطاب الشرع في الأمم المتحدة.. سوريا بين استعادة الشرعية وتحديات المرحلة الانتقالية

بعد سنوات طويلة من الغياب عن منابر الأمم المتحدة، عادت سوريا لتطل بخطاب رسمي أمام الجمعية العامة، لأول مرة منذ 1967، حين كان نور الدين الأتاسي آخر من مثّل البلاد على المنصة الدولية، هذه العودة لم تكن مجرّد مشاركة بروتوكولية، بل مثّلت لحظة سياسية مفصلية، إذ حمل خطاب الرئيس أحمد الشرع دلالات تتجاوز الشكل إلى المضمون.

 

كرئيس للمرحلة الانتقالية، اختار الشرع أن يرسل رسائل متعددة، داخلية وخارجية، تؤكد على السلام والمصالحة والتنمية، في محاولةٍ لإعادة بناء صورة سوريا على المستوى الدولي وتهيئة الأرضية لمشروعٍ سياسي جديد، غير أنّ التساؤلات تبقى حول مدى قدرة هذه الوعود على ترجمة خطاب السلام والانفتاح إلى واقعٍ ملموس، وسط معادلات سياسية ومعيشية معقدة تشكلت خلال أكثر من عقد من الصراع.

 

خطاب الشرع… رسائل موجهة إلى من؟

إطلالة الرئيس السوري أحمد الشرع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة شكّلت محطة بارزة في المسار السياسي السوري الجديد، ليس فقط لكونها أعادت سوريا إلى المنبر الدولي بعد سنواتٍ من الغياب، بل لأنّها حملت خطاباً مختلفاً في الشكل، إذ وجّه الرئيس الشرع في كلمته عدة رسائل، كلّ منها استهدف جمهوراً محدداً.

إلى الداخل السوري، كانت الرسالة الأولى واضحة، هناك قطيعة مع الخطاب الذي تبنّاه النظام السابق. تحميل المسؤولية عمّا وقع من مجازر ودمار إلى “العهد الماضي” لم يكن مجرّد اعتراف، بل محاولة لإعادة تعريف شرعية القيادة الجديدة عبر التمايز عن التجربة السابقة، هذه اللغة جاءت لتفتح نافذة أمل أمام السوريين.

أما على مستوى المجتمع الدولي، فقد ركّز الشرع على لغة السلام والانفتاح، الحديث عن الرغبة في إعادة بناء علاقات بنّاءة ودعوة المستثمرين للمشاركة في الإعمار شكّل رسالة طمأنة للدول الكبرى والإقليمية بأنّ سوريا تسعى للخروج من دائرة الصراع، في المقابل، كان التركيز على العقوبات موجهاً بوضوح إلى العواصم الغربية، باعتبارها العقبة الأساسية أمام التعافي الاقتصادي، وبين الداخل والخارج، بدا الشرع وكأنّه ينسج خطاباً متعدد الطبقات، يوازن بين تطلعات السوريين ومطالب المجتمع الدولي.


التحدي الأكبر.. من الشعارات إلى التنفيذ

رغم الحفاوة التي رافقت خطاب الشرع، يظلّ التحدي الأساسي هو الانتقال من لغة الشعارات إلى خطوات ملموسة، التجربة السورية خلال العقود الماضية علّمت المجتمع الدولي والسوريين معاً أنّ الكلمات لا تكفي، لذلك، فإن المعيار الذي سيُحكم به على القيادة الجديدة لا يتعلق ببلاغة الخطاب، بل بمدى قدرة هذه القيادة على اتخاذ إجراءات عملية تثبت أنّها جادّة في فتح صفحة جديدة.

ملف المعتقلين، على سبيل المثال، يمثل اختباراً مبكراً، أيّ تقدمٍ في هذا المجال سيكون بمثابة مؤشر على أنّ الحديث عن العدالة والمصالحة ليس مجرّد واجهة إعلامية كذلك، فإنّ العودة الآمنة للمهجرين، وفتح المجال أمام مشاركة سياسية أوسع داخل البلاد، ستكون مؤشرات أخرى على جدية المرحلة الجديدة.

التحدي يكمن أيضاً في إدارة التوازنات الداخليّة. فالمجتمع السوري اليوم منقسم بين قوى أمر واقع متعددة، ولكلّ منها داعمون إقليميون ودوليون، ومن دون تسوية داخلية متينة، ستبقى أيّ وعود بالسلام والتنمية معلّقة في الهواء، وهنا يظهر الفرق بين خطاب يُراد به إعادة صياغة الصورة، وبين مشروعٍ سياسيّ قادر على الصمود أمام تعقيدات الواقع.

 

العقوبات وإعادة الإعمار.. معركة دبلوماسية قادمة

من أبرز محاور خطاب الشرع الدعوة إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا، باعتبارها أداة تعاقب الشعب بدلاً من معاقبة النظام السابق، هذه النقطة تعكس إدراك القيادة الجديدة لثقل البعد الاقتصادي في المعادلة السياسيّة، إذ لا يمكن لسوريا أن تنهض من جديد ما لم تُفتح قنوات التمويل والاستثمار.

لكن رفع العقوبات ليس مجرّد قرار تقني، بل قضية سياسيّة بامتياز، إذ ترى القوى الغربية في هذه العقوبات أداة ضغط رئيسية لإجبار القيادة السورية الجديدة على تقديم تنازلاتٍ حقيقيّة في ملفات الحكم وحقوق الإنسان، وهذا يعني أن أي مسار لتخفيف العقوبات سيكون مرتبطاً بمفاوضات معقّدة، حيث ستربط الدول المعنية أيّ خطوة ملموسة بتحقيق تقدم على الأرض، بما في ذلك إطلاق عملية سياسية أكثر شمولاً.

في هذا السياق، تبرز إعادة الإعمار كمعركة دبلوماسية موازية، فالشرع دعا المستثمرين إلى دخول السوق السوريّة، لكن غياب الضمانات القانونيّة والسياسيّة يجعل هذه الدعوة غير كافية، فتجارب دول أخرى أظهرت أنّ الاستقرار السياسي شرط أساسي لتدفق الاستثمارات، وهو ما يجعل ملف الإعمار مرتبطاً بشكل وثيق بملف العقوبات والتسوية السياسية معاً، بمعنى آخر، لا إعمار من دون سياسة، ولا سياسة من دون تفاوض دولي.

 

إلى أين يتجه المسار السوري بعد خطاب الشرع؟

يبقى السؤال الأهم، هل يشكل خطاب الشرع إعلان بداية مرحلة جديدة، أم أنّه مجرّد محاولة لإعادة تلميع صورة الدولة السورية أمام العالم؟ ما بين هذين الاحتمالين، تبدو الصورة ضبابية، فالمجتمع الدولي أبدى استعداداً مبدئياً للتعامل مع القيادة الجديدة، لكنّه ما يزال متحفظاً بانتظار خطوات عملية تثبت مصداقية الخطاب.

على المستوى الداخلي، ما زالت التحديات أكبر، بناء الثقة بين الدولة والمجتمع لن يتحقق بخطابات الأمم المتحدة، بل بقرارات ملموسة تمس حياة الناس اليومية، من توفير الخدمات الأساسية، وصولاً إلى خلق مساحات أوسع للمشاركة السياسية، كلّها عوامل ستحدد إلى أيّ مدى يمكن للمرحلة الجديدة أن تترسخ.

المشهد الإقليمي والدولي بدوره سيؤثر على المسار السوريّ، القوى الإقليمية التي انخرطت في الصراع السوري لعقد من الزمن لن تقف موقف المتفرج، بل سيسعى كلّ منها لضمان مصالحه في أيّ تسويةٍ قادمة، وهو ما يعني أنّ الشرع، رغم انفتاحه على العالم، سيجد نفسه أمام شبكة معقدة من الحسابات الدولية والإقليمية التي قد تعرقل أو تسرّع مسار التحول.

في المحصلة، خطاب الشرع في الأمم المتحدة يمثل لحظة سياسية مهمة، لكنه لا يتجاوز كونه خطوة أولى في مسار طويل مليء بالتحديات، فالمجتمع الدولي يترقب الأفعال لا الأقوال، والسوريون أنفسهم ينتظرون مؤشرات ملموسة تعيد لهم الثقة بأنّ صفحة الماضي قد طويت فعلاً، فالمستقبل السوري بعد خطاب الشرع مفتوح على احتمالاتٍ متعددة، تبدأ من الانفتاح التدريجي ولا تنتهي عند تسوية شاملة، ويبقى نجاحها رهناً بقدرة القيادة الجديدة على الجمع بين الشرعية الدولية والقبول الداخلي.

ما بين رسائل الطمأنة التي حملها خطاب الشرع، والتحديات الميدانية والسياسية التي تواجه سوريا اليوم، تبقى المسافة واسعة بين الأقوال والأفعال، فالمجتمع الدولي يترقب خطوات ملموسة تتجاوز الوعود، والسوريون أنفسهم ينتظرون مؤشرات عملية تعيد لهم الثقة بقدرة دولتهم على طي صفحة الماضي، خطاب الأمم المتحدة يمثل بلا شك لحظة فارقة في استعادة سوريا لمكانتها الدولية، لكنّه في الوقت نفسه يضع القيادة الجديدة أمام اختبار صعب، هل يمكن تحويل لغة السلام والانفتاح إلى مشروعٍ سياسيّ حقيقيّ قادر على إعادة بناء الدولة والمجتمع معاً؟ الجواب عن هذا السؤال هو ما سيحدد ملامح المرحلة المقبلة في المسار السوري.

شارك

مقالات ذات صلة